( ) 505 – 450 اعتنى بـه زين -و -شذا رائق عبدهللا محمد أسماعيل ُح ِّ نشر موقع الفلسفة اإلسالمية الفهرست توطئة مدا ِّخ ُل السفسطة وجحد العُلوم اف الطالبين القو ُل في أصن ِّ اصله ِّ - 1عل ُم الكالم :مق ُ صوده وح ِّ – 2الفلسفة أصناف الفال ِّسفة و ُ شمول وصمة ال ُك ِّفر كافته ُم لومهم ع ِّ أقس ِّام ُ ب التع ِّليم وغا ِّئلته - 3القو ُل ِّفي مذه ِّ ُ -4 ط ُرق الصوفِّية واضطرار كاف ِّة الخلق إليها حقيقة النُبُوة: ِّ اض عنـه سبب نشر ال ِّعلم بعد اإلعر ِّ مالحظه عن النص والتحقيق توطئة بسم هللا الرحمن الرحيم احلمد هلل الذي يفتتح حبمده كل رسالة ومقالة ،والصالة على حممد املصطفى صاحب النبوة والرسالة ، وعلى آله وأصحابـه اهلادين من الضاللة. أما بعد: أبث إليك غاية العلوم وأسرارها ،وغائلة املذاهب وأغوارها ،وأحكي فقد سألتين أيها األخ يف الدين ،أن ّ لك ما قاسيته يف استخالص احلق من بني اضطراب الفرق ،مع تباين املسالك والطرق ،وما استجرأت عليه من االرتفاع عن حضيض التقليد ،إىل يفاع 1االستفسار ، 2وما استفدته أوالً من علم الكالم ،وما اجتـويـته 3اثنياً من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك احلق على تقليد اإلمام ،وما ازدريته اثلثاً من طرق التفلسف ،وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف ،وما اجنلى يل يف تضاعيف تفتيشي عن أقاويل اخللق ، من لباب احلق ،وما صرفين عن نشر العلم ببغداد ،مع كثرة الطلبة ،وما دعاين 4إىل معاودته بنيسابور 5بعد طول املدة ،فابتدرت إلجابتك إىل مطلبك ،بعد الوقوف على صدق رغبتك ،وقلت مستعيناً ابهلل ومتوكالً عليه ،ومستوثقاً 6منه ،وملتجئاً إليه: اعلموا -أحسن هللا ( تعاىل ) إرشادكم ،وأالن للحق قيادكم -أن اختالف اخللق يف األداين وامللل ،مث اختالف األئمة يف املذاهب ،على كثرة الفرق وتباين الطرق ،حبر عميق غرق فيه األكثرون ،وما جنا منه ب بما لديهم فرحون )) (الروم )32 :هو الذي إال األقلون ،وكل فريق يزعم أنه الناجي ،و (( ك ُل حز ٍ وعدان بـه سيد املرسلني ،صلوات هللا عليه ،وهو الصادق الصدوق 7حيث قال: 8 (( ستفترق أمتي ثالثا ً وسبعين فرقة الناجية منـها واحدة )) فقد كان ما وعد أن يكون. 1اليفاع :املكان املرتفع. 2يف ق :االستبصار. 3يقال :اجتوى الطعام :كرهه. 4يف ش :ردين. 5يف ش :معاوديت نيسابور. 6يف ق :مستوفقاً. 7يف ق :املصدوق. 8رواه أمحد وأبو دواد وابن ماجة والرتمذي بلفظ أخر. الغزايل املنقذ من الضالل ومل أزل يف عنفوان شبايب ( وريعان عمري ) ،منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إىل اآلن ،وقد أانف السن على اخلمسني ،أقتحم لّة هذا البحر العميق ،وأخوض غمرته خوض السور ،ال خوض البان هجم على كل مشكلة ،وأتقحم كل ورطة ،وأتفحص عن عقيدة كل احلذور ،وأتوغل يف كل مظلمة ،وأتـ ّ فرقة ،وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ؛ ألميز بني حمق ومبطل ،ومتسنن ومبتدع ، 9ال أغادر ابطنيا إال وأحب أن أطلع على ابطنيته ، 10وال ظاهرّايً إال وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته ،وال فلسفياً إال وأقصد الوقوف على كنـه فلسفته ،وال متكلماً إال وأجتهد يف اإلطالع على غاية كالمه وجمادلته ،وال صوفياً إال وأحرص على العثور على سر صوفيته ، 11وال متعبداً إال وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ،وال زنديقاً معطالً 13إال وأجتسس 14وراءه للتنبه ألسباب جرأته يف تعطيله وزندقته. وقد كان التعطش إىل درك حقائق األمور دأيب وديدين من أول أمري وريعان عمري ،غريزة وفطرة من هللا 12 وضعتا يف جبليت ،ال ابختياري وحيليت ،حىت احنلت عين رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد املوروثة على قرب عهد سن 15الصبا ؛ إذ رأيت صبيان النصارى ال يكون هلم نشوء إال على التنصر ،وصبيان اليهود ال نشوء هلم إال على التهود ،وصبيان املسلمني ال نشوء هلم إال على اإلسالم .ومسعت احلديث املروي عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حيث قال :16 17 ُمجسأنه )) (( كل مولو ٍد يولد ُ على الفطرةِّ فأبواهُ يُهودأنه وينُصرأنه وي ِّ فتحرك ابطين إىل ( طلب ) حقيقة الفطرة األصلية ،وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين واألستاذين، 18 والتمييز بني هذه التقليدات ،وأوائلها تلقينات ،ويف متييز احلق منها عن الباطل اختالفات ،فقلت يف نفسي:أوالً 19إمنا مطلويب العلم حبقائق األمور ،فال بد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر يل أن العلم 9مبتدع :لغوايً خمرتع واصبح اصطالحاً على احملدث املكروه يف الدين. 10يف ش :بطانته :أي السريرة وهنا العقيدة الباطنة. 11يف ق :صفوته. 12يف لسان العرب :الزنديق القائل ببقاء الدهر. 13املعطل هو الذي ينكر صفات اخلالق. 14يف ش :واحتسس. 15يف ش :شرة ،والشرة بكسر الشني املعجمة وفتح الراء املشددة :احلدة والنشاط. 16يف ش :يقول. 17رواه أمحد والبخاري ومسلم بلفظ آخر. 18مجع أستاذ فارسي معرب ،وجيمع أيضاً على أساتذة وأساتيذ. 19يف ش :بدون أوالً. -4- الغزايل املنقذ من الضالل اليقيين هو الذي ينكشف 20فيه املعلوم انكشافاً ال يبقى معه ريب ،وال يقارنه 21إمكان الغلط والوهم ،وال يتسع القلب لتقدير ذلك ؛ بل األمان من اخلطأ ينبغي أان يكون مقارانً لليقني مقارنة لو حتدى إبظهار بطألنه مثالً من يقلب احلجر ذهباً والعصا ثعباانً ،مل يورث ذلك شكاً وإنكاراً ؛ فإين إذا علمت أن العشرة أكثر من الثالثة ،فلو قال يل قائل :ال ،بل الثالثة أكثر [ من العشرة ] بدليل أين أقلب هذه العصا ثعباانً ، وقلبها ،وشاهدت ذلك منه ،مل أشك بسببه يف معرفيت ،ومل حيصل يل منه إال التعجب من كيفية قدرته عليه! فأما الشك 22فيما علمته ،فال. مث علمت أن كل ما ال أعلمه على هذا الوجه وال أتيقنه هذا النوع من اليقني ،فهو علم ال ثقة به وال أمان معه ،وكل علم ال أمان معه ،فليس بعلم يقيين. 20يف ش :يكشف. 21يف ق :يفارقه. 22يف ق زاد :بسببه. -5- - 1مدا ِّخ ُل السفسطة وجحد العُلوم مث فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطالً من علم موصوف بـهذه الصفة إال يف احلسيات والضرورايت. فقلت :اآلن بعد حصول اليأس ،ال مطمع يف اقتباس املشكالت إال من الليات ،وهي احلسيات والضرورايت ،فال بد من إحكامها أوالً ألتيقن أن ثقيت 23ابحملسوسات ،وأماين من الغلط يف الضرورايت ، من جنس أماين الذي كان من قبل يف التقليدايت ،ومن جنس أمان أكثر اخللق يف النظرايت ،أم هو أمان حمقق ال غدر فيه وال غائلة له؟ فأقبلت جبد بليغ أأتمل احملسوسات والضرورايت ،وأنظر هل ميكنين أن أشكك نفسي فيها ،فانتهي يب طول التشكك 24إىل أن مل تسمح نفسي بتسليم األمان يف احملسوسات أيضاً ،وأخذت تتسع للشك فيها وتقول : 25من أين الثقة ابحملسوسات ، 26وأقواها حاسة البصر؟ وهي تنظر إىل الظل فرتاه واقفاً غري متحرك ،وحتكم بنفي احلركة ،مث ،ابلتجربة واملشاهدة ،بعد ساعة ،تعرف أنه متحرك وأنه مل يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ،بل على التدريج ذرة ذرة ،حىت مل يكن 27له حالة وقوف. وتنظر إىل الكوكب فرتاه صغرياً يف مقدار دينار ، 28مث األدلة اهلندسية تدل على أنه أكرب من األرض يف املقدار .وهذا وأمثاله من احملسوسات حيكم فيها حاكم احلس أبحكامه ،ويكذبـه حاكم العقل وخيونـه تكذيباً ال سبيل إىل مدافعته. فقلت :قد بطلت الثقة ابحملسوسات أيضاً ،فلعله ال ثقة إال ابلعقليات اليت هي من األوليات ،كقولنا: العشرة أكثر من الثالثة ،والنفي واإلثبات ال جيتمعان يف الشيء الواحد ،والشيء الواحد ال يكون حاداثً قدمياً ،موجوداً معدوماً ،واجباً حماالً .فقالت احملسوسات :مب أتمن أن تكون ثقتك ابلعقليات كثقتك ابحملسوسات ،وقد كنت واثقاً يب ،فجاء حاكم العقل فكذبين ،ولوال حاكم العقل لكنت تستمر على تصديقي ،فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر ،إذا جتلى ،كذب العقل يف حكمه ،كما جتلى حاكم العقل فكذب احلس يف حكمه ،وعدم جتلي ذلك اإلدراك ،ال يدل على استحالته .فتوقفت النفس يف 23يف ش :أثقيت. 24يف ش :التشكيك. 25يف ش :وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول. 26يف ق :ابحلواس. 27يف ش :تكن. 28يف ش :الدينار. الغزايل املنقذ من الضالل جواب ذلك قليالً ،وأيدت إشكاهلا ابملنام ،وقالت :أما تراك تعتقد يف النوم أموراً ،وتتخيل أحواالً ، وتعتقد هلا ثبااتً واستقراراً ،وال تشك يف تلك احلالة فيها ،مث تستيقظ فتعلم أنه مل يكن لميع متخيالتك ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم أتمن أن يكون مجيع ما تعتقده يف يقظتك حبس أو عقل هو حق ابإلضافة إىل حالتك [ اليت أنت فيها ] ؛ لكن ميكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إىل يقظتك ،كنسبة يقظتك إىل منامك ،وتكون يقظتك نوماً ابإلضافة إليها! فإذا وردت تلك احلالة تيقنت أن مجيع ما تومهت بعقلك خياالت ال حاصل هلا ،ولعل تلك احلالة ما تدعيه 29الصوفية أنـها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنـهم يشاهدون يف أحواهلم اليت ( هلم ) ،إذا غاصوا يف أنفسهم ،وغابوا عن حواسهم ،أحواالً ال توافق هذه املعقوالت .ولعل تلك احلالة هي املوت ،إذ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلّم: 30 الناس نيا ٌم فإذا ماتوا انتبـهوا )) (( ُ فلعل احلياة الدنيا نوم ابإلضافة إىل اآلخرة .فإذا مات ظهرت له األشياء على خالف ما يشاهده اآلن ، ويقال له عند ذلك: فبصرك اليوم حديدٌ )) (ق)22 : (( فكشفنا عنك غطاءك ُ فلما خطرت 31يل هذه اخلواطر وانقدحت يف النفس ،حاولت لذلك عالجاً فلم يتيسر ،إذ مل يكن دفعه إال ابلدليل ،ومل ميكن نصب دليل إال من تركيب العلوم األولية ،فإذا مل تكن مسلمة مل ميكن تركيب الدليل. فأعضل هذا الداء ، 32ودام قريباً من شهرين أان فيهما على مذهب السفسطة حبكم احلال ،ال حبكم النطق واملقال ،حىت شفى هللا تعاىل من ذلك املرض ،وعادت النفس إىل الصحة واالعتدال ،ورجعت الضرورايت العقلية مقبولة موثوقاً بـها على أمن ويقني ؛ ومل يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كالم ،بل بنور قذفه هللا تعاىل يف الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر املعارف ،فمن ظن أن الكشف موقوف على األدلة احملررة فقد ضيق رمحة هللا [ تعاىل ] الواسعة ؛ وملا سئل رسول هللا صلى هللا عليه وسلّم عن ( الشرح ) ومعناه يف قوله تعاىل: (( فمن يرد هللا أن يهديه يشرح صدره لإلسالم)) (األنعام)125 : 29يف د :يدعيه و يف ش :ندعية ؛ والصواب ما ثبتناه يف النص. 30يقول يف ش :أنه ليس حبديث ولكن من كالم على بن أىب طالب رضي هللا عنه. 31يف ش :خطر. 32هذ ه احلالة هي اليت تسمى فرتة الشك وهي غري األزمة الروحانية اليت أدت ابلغزايل إىل ترك بغداد ؛ وهي األزمة األوىل وهي بطابعها غري روحانية وإمنا هي معرفية .ويرى البعض أن هذا الشك مشابه ملا حصل للعامل الفرنسي رينيه ديكارت راجع يف ذلك ما كتبه أمحد مشس الدين يف حاشية (املنقذ) من حتقيقه ص ، 29وما كتبه عبد الرمحن بدوي يف مقالة بعنوان ( :أوهام حول الغزايل ) يف كتاب أبو حامد الغزايل :دراسات يف فكره وعصره وأتثريه ،منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ابلرابط لعام 1988م. -7- الغزايل املنقذ من الضالل قال (( :هو نور يقذفه هللا تعالى في القلب )) فقيل( :وما عالمته ؟) قال (( :التجافي عن دار دار ال ُخلُود )) .33وهو الذي قال صلى هللا عليه وسلم فيه: ور واإلنابة إلى ِّ الغُ ُر ِّ 34 (( إن هللا تعالى خلق الخلق في ُ ظلم ٍة ثم رش عليهم من نُور ِّه )) فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف ،وذلك النور ينبجس من الود اإلهلي يف بعض األحايني ، وجيب الرتصد له كما قال صلى هللا عليه وسلّم: 35 ضوا لها )) أيام دهركم نفحاتٌ أال فتعر ُ (( إن لربكم في ِّ واملقصود من هذه احلكاايت أن يعمل كمال الد يف الطلب ،حىت ينتهي إىل طلب ما ال يطلب .فإن األوليات ليست مطلوبة ،فأنـها حاضرة .واحلاضر إذا طلب فقد 36واختفى .ومن طلب ما ال يطلب ،فال يتهم ابلتقصري يف طلب ما يطلب. 33ذكره ابن كثري يف تفسريه بطرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً. 34رواه أمحد والرتمذي واحلاكم بلفظ آخر. 35رواه الطرباين والسيوطي يف الفتح الكبري بلفظ أخر قريب ،والبيهقي وأبو هريرة بلفظ آخر ،وأبو نعيم عن أنس. 36يف ش :نفر. -8- الغزايل املنقذ من الضالل :اصناف الطالبني اف الطالبين القو ُل في أصن ِّ وملا شفاين هللا من هذا املرض بفضله وسعة جوده ،أحنصرت أصناف الطالبني عندي يف أربع فرق: .1املتكلمون :وهم يدعون أنـهم أهل الرأي والنظر. .2الباطنية :وهم يزعمون أنـهم أصحاب التعليم واملخصوصون ابالقتباس من اإلمام املعصوم. .3الفالسفة :وهم يزعمون أنـهم أهل املنطق والربهان. .4الصوفية :وهم يدعون أنـهم خواص احلضرة وأهل املشاهدة واملكاشفة. فقلت يف نفسي :احلق ال يعدو هذه األصناف األربعة ،فهؤالء هم السالكون سبل طلب احلق ،فإن شذ احلق عنهم ،فال يبقى يف درك احلق مطمع ،إذ ال مطمع يف الرجوع إىل التقليد بعد مفارقته ؛ و( من ) شرط املقلد 37أن ال يعلم أنه مقلد ،فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ،وهو شعب 38ال يرأب، 39 وشعث 40ال يلم ابلتلفيق والتأليف ،إال أن يذاب ابلنار ،ويستأنف له صنعة أخرى مستجدة. فابتدرت لسلوك هذه الطرق ،واستقصاء ما عند هذه الفرق .مبتدائً بعلم الكالم .ومثنياً بطريق الفلسفة ، ومثلثاً بتعلم الباطنية ،ومربعاً بطريق الصوفية. * * * 37يف ش :إذ من شرط املقلد. 38الشعب بكسر الشني املعجمة وسكون العني املهملة انفراج بني البلني ،واملراد هنا شق. 39اليرأب :اليصلح. 40شعث :ما تفرق من األمور. -9- اصله ِّ -1عل ُم الكالم :مق ُ صوده وح ِّ مث إين ابتدأت بعلم الكالم ،فحصلته وعقلته ،وطالعت كتب احملققني منهم ،وصنفت فيه ما أردت أن أصنف ،فصادفته علماً وافياً مبقصوده ،غري واف مبقصودي ؛ وإمنا املقصود منه 41حفظ عقيدة أهل السنة [ على أهل السنة ] وحراستها عن تشويش أهل البدعة .فقد ألقى هللا ( تعاىل ) إىل عباده على لسان رسوله عقيدة هي احلق ،على ما فيه صالح دينهم ودنياهم ،كما نطق مبعرفته القرآن واألخبار ،مث ألقى الشيطان يف وساوس املبتدعة أموراً خمالفة للسنة ،فلهجوا 42بـها وكادوا يشوشون عقيدة احلق على أهلها .فأنشأ هللا تعاىل طائفة املتكلمني ،وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكالم مرتب ،يكشف عن تلبيسات أهل البدع احملدثة ،على خالف السنة املأثورة ؛ فمنه نشأ علم الكالم وأهله .ولقد قام طائفة منهم مبا ندبـهم هللا ( تعاىل ) إليه ،فأحسنوا الذب عن السنة ،والنضال عن العقيدة املتلقاة ابلقبول من النبوة ،والتغيري يف وجه ما أحدث من البدعة ؛ ولكنهم اعتمدوا يف ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم ،واضطرهم إىل تسليمها :إما التقليد ،أو إمجاع األمة ،أو جمرد القبول من القرآن واألخبار .وكان أكثر خوضهم يف استخراج مناقضات اخلصوم ،ومؤاخذهتم بلوازم مسلماهتم .وهذا قليل النفع يف حق 43من ال يسلم سوى الضرورايت شيئاً ( أصالً ) ،فلم يكن الكالم يف حقي كافياً ،وال لدائي الذي كنت أشكوه شافياً .نعم ،ملا نشأت صنعة الذب ( عن السنة ) ابلبحث عن الكالم وكثر اخلوض فيه وطالت املدة ،تشوق املتكلمون إىل حماولة ّ حقائق األمور ،وخاضوا يف البحث عن الواهر واألعراض 44وأحكامها .ولكن ملا مل يكن ذلك مقصود علمهم ،مل يبلغ كالمهم فيه الغاية القصوى ،فلم حيصل منه ما ميحق 45ابلكلية ظلمات احلرية يف اختالفات اخللق ؛ وال أبعد أن يكون قد حصل ذلك لغريي! بل لست أشك يف حصول ذلك لطائفة ولكن حصوالً مشوابً ابلتقليد يف بعض األمور اليت ليست من األوليات! والغرض اآلن حكاية حايل ،ال اإلنكار على من استشفى به ،فإن أدوية الشفاء ختتلف ابختالف الداء. وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر بـه آخر! 41يف ش :مقصوده. 42هلج ابألمر :أولع به فثابر عليه واعتاده. 43يف ش :جنب. 44الوهر :األصل ويف املصطلح املاهية .العرض هو الذي حيتاج إىل موضع يقوم به كاللون احملتاج اىل جسم حيله. 45يف ش :يـمحو. - 10 - الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة * * - 11 - * الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة - 2الفلسفة حمصوهلا. املذموم منها وما ال يذم. وما يكفر به قائلة وما ال يكفر به. وما يبتدع فيه وما ال يبتدع. وبيان ما سرقه الفالسفة من كالم أهل احلق. وبيان ما مزجوه بكالم أهل احلق لرتويج ابطلهم يف درج ذلك. وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك احلق املمزوج ابلباطل. وكيفية استخالص احلق اخلالص من الزيف والبهرج من مجلة كالمهم. 46 مث إين ابتدأت ،بعد الفراغ من علم الكالم ،بعلم الفلسفة وعلمت يقيناً ،أنه ال يقف على فساد نوع من العلوم ،من ال يقف على منتهى ذلك العلم ،حىت يساوي أعلمهم يف أصل [ ذلك ] العلم ،مث يزيد عليه وجياوز درجته ،فيطلع على ما مل يطلع عليه صاحب العلم من غور 47وغائله ،وإذا ذاك 48ميكن أن يكون ما يدعيه من فساده ح ّقاً .ومل أر أحداً من علماء اإلسالم صرف عنايته ومهته إىل ذلك. ومل يكن يف كتب (( املتكلمني )) من كالمهم ،حيث اشتغلوا ابلرد عليهم ،إال كلمات معقدة مبددة ، ظاهرة التناقض والفساد ،ال يظن االغرتار بـها بعاقل 49عامي ،فضالً عمن يدعي دقائق العلوم .فعلمت أن رد املذهب قبل فهمه واإلطالع على كنهه 50رمى يف عماية ،فشمرت عن ساق الد ،يف حتصيل ذلك العلم من الكتب ،مبجرد املطالعة من غري استعانة أبستاذ ،وأقبلت على ذلك يف أوقات فراغي من التصنيف والتدريس يف العلوم الشرعية ،وأان ممنو 51ابلتدريس واإلفادة لثالمثائة نفر من الطلبة ببغداد. 46مجيع هذه النقط الثمانية زائدة يف ش و ق. 47يف ش :غوره. 48يف ش :فإذذاك. 49يف ش :بغافل. 50كنهه :قدر الشيء ونـهايته ؛ يقال :بلغت كنه هذا األمر أي غايته .لسان اللسان. 51ممنو :مبتلّى به. - 12 - الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة فأطلعين هللا سبحأنه [ وتعاىل ] مبجرد املطالعة يف هذه األوقات املختلسة ،على منتهى علومهم يف أقل من سنتني .مث مل أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة ،أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره ، حىت اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ،وحتقيق وختييل ،اطالعاً مل أشك فيه. فامسع اآلن حكايتهم 52وحكاية حاصل علومهم ؛ فإين رأيتهم أصنافاً ،ورأيت علومهم أقساماً ؛ وهم على كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة 53الكفر واإلحلاد ،وإن كان بني القدماء منهم واألقدمني ،وبني األواخر منهم واألوائل ،تفاوت عظيم يف البعد عن احلق والقرب منه. * * 52يف ش :حكايته. 53يف ش :مسة. - 13 - * الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة أصناف الفال ِّسفة و ُ شمول وصمة ال ُك ِّفر كافته ُم 54 اعلم :أنـهم ،على كثرة فرقهم واختالف مذاهبـهم ،ينقسمون إىل ثالثة أقسام :الدهريون ،والطبيعيون ، واإلهليون. الصنف األول :الدهريون -:وهم طائفة من األقدمني جحدوا الصانع املدبر ،العامل القادر ،وزعموا أن العامل مل يزل موجوداً كذلك بنفسه بال صانع ،ومل يزل احليوان من النطفة ،والنطفة من احليوان ،كذلك كان ،وكذلك يكون أبداً وهؤالء هم الزاندقة. والصنف الثاين :الطبيعيون -:وهم قوم أكثروا حبثهم عن عامل الطبيعة ،وعن عجائب احليوان والنبات ، وأكثروا اخلوض يف علم تشريح أعضاء احليواانت ،فرأوا فيها من عجائب صنع هللا تعاىل وبدائع حكمته ،مما اضطروا معه إىل االعرتاف بفاطر 55حكيم ،مطلع على غاايت األمور ومقاصدها .وال يطالع التشريح وعجائب منافع األعضاء مطالع ،إال وحيصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبري الباين لبنية احليوان ؛ ال سيما بنية اإلنسان .إال أن هؤالء ،لكثرة حبثهم عن الطبيعة ،ظهر عندهم -العتدال املزاج -أتثري عظيم يف قوام قوى احليوان بـه .فظنوا أن القوة العاقلة من اإلنسان اتبعة ملزاجه أيضاً ،وأنـها تبطل ببطالن مزاجه فتنعدم .56مث إذا انعدمت ، 57فال يعقل إعادة املعدوم كما زعموا .فذهبوا إىل أن النفس متوت وال تعود ، فجحدوا اآلخرة ،وأنكروا النة والنار [ ،واحلشر والنشر ] ،والقيامة واحلساب ،فلم يبق عندهم للطاعة ثواب ،وال للمعصية عقاب ،فاحنل عنهم اللجام وأنـهمكوا يف الشهوات أنـهماك األنعام. وهؤالء أيضاً زاندقة ألن أصل اإلميان هو اإلميان ابهلل واليوم اآلخر .وهؤالء جحدوا اليوم اآلخر ،وإن آمنوا ابهلل وصفاته. 54يف ش :أصناف الفالسفة واتصاف كافتهم ابلكفر. 55يف ش :بقادر. 56يف ش :فينعدم. 57يف ش :انعدم. - 14 - الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة والصنف الثالث :اإلهليون -:وهم املتأخرون منهم [ ،مثل ] :سقراط 58 ،وهو أستاذ أفالطون ، وأفالطون 59أستاذ أرسطاطاليس ،وأرسطاطاليس 60هو الذي رتب [ هلم ] املنطق ،وهذب هلم العلوم ، وحرر هلم ما مل يكن حمرراً من قبل ،وأنضج هلم ما كان ف ّجاً من علومهم ،وهم جبملتهم ردوا على الصنفني ّ األولني من الدهرية والطبيعية ،وأوردوا يف الكشف عن فضائحهم ما أغنوا بـه غريهم (( .وكفى هللا املؤمنني رداً مل يقصر القتال )) بتقاتلهم .مث رد أرسطاطاليس على أفالطون وسقراط ،ومن كان قبلهم من اإلهليني ّ ، فيه حىت تربأ عن مجيعهم ؛ إال أنه استبقى أيضاً من رذائل 61كفرهم وبدعتهم بقااي مل يوفق للنـزوع عنها، 62 فوجب تكفريهم ،وتكفري شيعتهم 63من املتفلسفة اإلسالميني ،كابن سينا 64والفارايب 65و غريهم .66على أنه مل يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة اإلسالميني كقيام هذين الرجلني .وما نقله غريمها ليس خيلو من ختبيط وختليط يتشوش فيه قلب املطالع حىت ال يفهم .وما ال يفهم كيف يرد أو يقبل؟ وجمموع ما صح عندان من فلسفة أرسطاطاليس ،حبسب نقل هذين الرجلني ،ينحصر يف ثالثة أقسام- : .1قسم جيب التفكري به. .2وقسم جيب التبديع به. 58فليسوف يوانين ( 399-469ق .م ).ادعى أنه ال يعلم شيء ،وليس له آاثر مكتوبة وكل ما عندان ما سجله تلميذه أفالطون من حمداثته .رفعت احملكمة اليواننية دعوة ضده بتهمة افساد الشباب وأعدمته ابلسم. 59فليسوف يوانين ( 347-427ق.م ).تلميذ سقراط سجل حمداثت أستاذه ،وأسس مدرسة للفلسفة مساها األكادمية ،جرب الدور السياسي يف سركيوز (ايطاليا) مث رجع إىل عاصمة اليوانن أثنيا عندما تغري الوضع السياسي حوله ،قال مربراً لذلك أنه ال يريد أن تتكرر الرمية ضد الفلسفة مشرياً إىل حادثة إعدام سقراط .من أهم أعماله كتاب المهورية. 60فليسوف مقدوين ( 347-427ق.م ).تلميذ أفالطون ،درس يف مدرسته عشرون عاماً ،مث رجع إىل بلده ليكون مدرساً لإلسكندر املقدوين ،مث عاد إىل أثنيا وأسس مدرسة مساها الليسيم ،بعد وفاة أفالطون ،وحبث فيها مع تالميذه شىت أنواع املعرفة واستمرت بعد مماته بسنوات عديدة .مث اضطر مغادرة أثنيا عندما توىف االسكندر وضعف أمر املقدونيني .تالميذه اشتهروا ( ابملشائني ) ألنه كانت عادة املعلم أن ميشي وهو يلقي احملاضرة .من أشهر املعلقني على أعماله ا لفليسوف ابن رشد القرطيب احلفيد املعروف بـ"املعلق" الذي ازدهر بعد الغزايل مبائة عام .هذب علم النطق وكتب يف االخالق والنفس وما وراء الطبيعة ،واعماله السياسية مل تصل العرب واكتفوا مبا كتب افالطون. 61يف ق :رذاذ. 62يف ش :للنـزع منها. 63يف ش :متبعيهم. 64هو أبو احلسني علي ابن سينا ( 428-370هـ) (فارسي األصل) الطبيب والفليسوف ،صاحب كتاب (القانون يف الطب) وكتاب (الشفا) وكتاب (النجاة) يف الفلسفة. 65أبو نصر الفارايب (339-260هـ) الفليسوف (تركي األصل) املشهور صاحب كتاب املوسيقى الكبري وكتب يف الفلسفة .زعم أبن سينا أنه مل يفهم ارسطو حىت قرأ شرحه الذى ألفه الفارايب .مل يشتهر يف عصره ،ولكنه اشتهر بعد ابن سينا. 66يف ق :أمثاهلما ،ويف ش غريمها. - 15 - الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة .3وقسم ال جيب إنكاره أصالً فلنفصله.67 * * 67انقص يف ش :فلنفصله. - 16 - * الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة لومهم أقس ِّام ُ ع ِّ أعلم :أن علومهم -ابلنسبة إىل الغرض الذي نطلبه -ستة أقسام :رايضية ،ومنطقية ،وطبيعية ،وإهلية ، وسياسية ،وخلقية. - 1أما الرايضية :فتتعلق بعلم احلساب واهلندسة وعلم هيئة العامل ، 68وليس يتعلق شيء منها ابألمور الدينية نفياً وإثبااتً ،بل هي أمور برهانية ال سبيل إىل جماحدته بعد فهمها ومعرفتها .وقد تولدت منها آفتان: احدامها 69 األوىل :ان من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ،فيحسن بسبب ذلك اعتقاده يف الفالسفة ،وحيسب أن مجيع علومهم يف الوضوح [ ويف ] واثقة الربهان كهذا العلم .مث يكون قد مسع من كفرهم وتعطيلهم وتـهاونـهم ابلشرع ما تناولته األلسن فيكفر ابلتقليد احملض ويقول :لو كان الدين 71 حقاً ملا اختفى على هؤالء مع تدقيقهم يف هذا العلم! فإذا عرف ابلتسامع كفرهم وجحدهم 70استدل على أن احلق هو الحد واإلنكار للدين .وكم رأيت ممن يضل 72عن احلق بـهذا العذر 73وال مستند له سواه! وإذا قيل له :احلاذق يف صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً يف كل صناعة ،فال يلزم أن يكون احلاذق يف الفقه والكالم حاذقاً يف الطب ،وال أن يكون الاهل ابلعقليات جاهالً ابلنحو ،بل لكل صناعة أهل بلغوا فيها [ رتبة ] الرباعة والسبق .وإن كان احلمق والهل ( قد ) يلزمهم يف غريها .فكالم األوائل يف جربه وخاض فيه .فهذا إذا قرر على هذا الرايضيات برهاين ،ويف اإلهليات ختميين ؛ ال يعرف ذلك إال من ّ الذي أحلد 74ابلتقليد ،مل يقع منه موقع القبول ،بل حتمله غلبة اهلوى ،والشهوة الباطلة ،وحب التكايس ،على أن يصر على حتسني الظن بـهم يف العلوم كلها. 68يف ش :العلم. 69انقص يف ش :احدامها. 70يف ق :جورهم. 71يف ش :فيستدل. 72يف ش :ضل. 73يف ش :القدر. 74يف ش :اختذ. - 17 - الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة فهذه آفة عظيمة ألجلها جيب زجر كل من خيوض يف تلك العلوم ،فأهنا وإن مل تتعلق أبمر الدين ،ولكن ملا كانت من مبادئ علومهم ،سرى 75إليه شرهم وشؤمهم ،فقل من خيوض فيها إال وينخلع من الدين وينحل عن رأسه لام التقوى. اآلفة الثانية :نشأت من صديق لإلسالم جاهل ،ظن أن الدين ينبغي أن ينصر إبنكار كل علم منسوب إليهم :فأنكر مجيع علومهم وادعى جهلهم فيها ،حىت أنكر قوهلم يف الكسوف واخلسوف ،وزعم أن ما قالوه على خالف الشرع .فلما قرع ذلك مسع من عرف ذلك ابلربهان القاطع ،مل يشك يف برهأنه ،ولكن اعتقد أن اإلسالم مبين على الهل وإنكار الربهان القاطع ،فيزداد للفلسفة حبّاً ولإلسالم بغضاً .ولقد عظم على الدين جناية من ظن أن اإلسالم ينصر إبنكار هذه العلوم ،وليس يف الشرع تعرض هلذه العلوم ابلنفي واإلثبات ،وال يف هذه العلوم تعرض لألمور الدينية .وقوله صلى هللا عليه وسلّم: ت أح ٍد وال لحياته فإذا ت هللا تعالى ال ينخسفان لمو ِّ (( إن الشمس والقمر آيتان من آيا ِّ ِّ رأيتم ذلك 76 فافزعوا إلى ذكر هللا تعالى وإلى الصالة )) . وليس يف هذا ما يوجب إنكار علم احلساب املعرف مبسري الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلهما على وجه خمصوص .أما قوله ( عليه السالم ) (( :لكن هللا إذا جتلى لشيء خضع له )) فليس توجد هذه الزايدة يف الصحاح أصالً .فهذا حكم الرايضيات وآفتها. – 2وأما املنطقيات :فال يتعلق شيء منها ابلدين نفياً وإثبااتً ،بل هي 77النظر يف طرق األدلة واملقاييس وشروط مقدمات الربهان وكيفية تركيبها ،وشروط احلد الصحيح وكيفية ترتيبه .وأن العلم إما تصور وسبيل معرفته احلد ،وإما تصديق وسبيل معرفته الربهان ؛ وليس يف هذا ما ينبغي أن ينكر ،بل هو ( من ) جنس ما ذكره املتكلمون وأهل النظر يف األدلة ،وإمنا يفارقونـهم ابلعبارات واالصطالحات ،بزايدة االستقصاء يف التعريفات والتشعيبات ،ومثال كالمهم فيها قوهلم :إذا ثبت أن كل (( أ )) (( ب )) لزم أن بعض (( ب )) (( أ )) أي إذا ثبت أن كل إنسان حيوان ،لزم أن بعض احليوان إنسان .ويعربون عن هذا أبنه املوجبة الكلية تنعكس موجبة جزئية .وأي تعلق هلذا مبهمات الدين حىت جيحد وينكر؟ فإذا أنكر مل حيصل من إنكاره عند أهل املنطق إال سوء االعتقاد يف عقل املنكر ،بل يف دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا اإلنكار .نعم ،هلم نوع من الظلم يف هذا العلم ،وهو أنـهم جيمعون للربهان شروطاً يعلم أهنا تورث اليقني ال حمالة ،لكنهم 75يف ش :يسرى. 76روي هذا احلديث أبسانيد وطرق خمتلفة .يوجد يف البخاري وأمحد والنسائي وأبن ماجة ومالك. 77يف ش :هو. - 18 - الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة عند االنتهاء إىل املقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط ،بل تساهلوا غاية التساهل ،ورمبا ينظر يف املنطق أيضاً من يستحسنه ويراه واضحاً ،فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفرايت مؤيد مبثل تلك الرباهني ، فاستعجل ابلكفر قبل االنتهاء إىل العلوم اإلهلية. فهذه اآلفة أيضاً متطرقة إليه. - 3وأما ( علم ) الطبيعيات :فهو حبث 78عن عامل السماوات وكواكبها وما حتتها من األجسام املفردة: كاملاء واهلواء والرتاب والنار ،وعن األجسام املركبة :كاحليوان والنبات واملعادن ،وعن أسباب تغريها واستحالتها وامتزاجها .وذلك يضاهي حبث الطب 79عن جسم اإلنسان وأعضائه الرئيسة 80واخلادمة ، وأسباب استحالة مزاجه .وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب ،فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك العلم ،إال يف مسائل معينة ،ذكرانها يف كتاب (( تـهافت الفالسفة )) .وما عداها مما جيب املخالفة فيها ؛ فعند التأمل يتبني أهنا مندرجة حتتها ،وأصل مجلتها :أن تعلم 81أن الطبيعة مسخرة هلل تعاىل ،ال تعمل بنفسها ،بل هي مستعملة من جهة فاطرها .والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات أبمره ال فعل لشيء منها بذاته عن ذاته.82 – 4وأما اإلهليات :ففيها أكثر أغاليطهم ،فما قدروا على الوفاء ابلربهان على ما شرطوه يف املنطق ، ولذلك كثر االختالف بينهم فيها .ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب اإلسالميني ،على ما نقله الفارايب وابن سينا .ولكن جمموع ما غلطوا فيه يرجع إىل عشرين أصالً ،جيب تكفريهم يف ثالثة منها ، وتبديعهم يف سبعة عشر .وإلبطال مذهبهم يف هذه املسائل العشرين ،صنفنا كتاب ( التهافت ). أما املسائل الثالث ،فقد خالفوا فيها كافة اإلسالميني 83وذلك يف قوهلم: - 1إن األجساد ال حتشر ،وإمنا املثاب واملعاقب هي األرواح اجملردة ( ،واملثوابت ) والعقوابت روحانية ال جسمانية ؛ ولقد صدقوا يف إثبات الروحانية ،فأهنا اثبتة 84أيضاً ،ولكن كذبوا يف إنكار السمانية ،وكفروا ابلشريعة فيما نطقوا به. 78يف ش :يبحث. 79يف ش :الطبيب. 80يف ش :الرئيسية. 81يف ش :يعلم. 82نقص يف ش :عن ذاته. 83يف ق :املسلمني. - 19 - الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة - 2ومن ذلك قوهلم (( :إن هللا تعاىل يعلم الكليات دون الزئيات )) ؛ ت وال في وهذا أيضاً كفر صريح ،بل احلق أنه (( :ال يعزب عنـه مثقال ذر ٍة في السموا ِّ األرض ))(.سبأ)3 : ِّ - 3ومن ذلك قوهلم بقدم العامل وأزليته فلم يذهب أحد من املسلمني إىل شيء من هذه املسائل. وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات ،وقوهلم إنه عامل ابلذات ،ال بعلم زائد (على الذات) وما جيري جمراه ، فمذهبهم فيها قريب من مذهب املعتزلة وال جيب تكفري املعتزلة مبثل ذلك .وقد ذكران يف كتاب (( فيصل التفرقة بني اإلسالم والزندقة )) ما يتبني به فساد رأي من يتسارع إىل التكفري يف كل ما خيالف مذهبه. - 4وأما السياسيات :فجميع كالمهم فيها يرجع إىل احلكم املصلحية املتعلقة ابألمور الدنيوية ( واإلايلة ) السلطانية ،وإمنا أخذوها من كتب هللا املنـزلة على األنبياء ،ومن احلكم املأثورة عن سلف األنبياء [ عليهم السالم ]. - 5وأما اخللقية :فجميع كالمهم ( فيها ) يرجع إىل حصر صفات النفس وأخالقها ،وذكر أجناسها وأنواعها وكيفية معالتها وجماهدهتا ،وإمنا أخذوها من كالم الصوفية ،وهم املتأهلون املواظبون على ذكر هللا تعاىل ،وعلى خمالفة اهلوى وسلوك الطريق إىل هللا تعاىل ابإلعراض عن مالذّ الدنيا .وقد انكشف هلم يف جماهدهتم من أخالق النفس وعيوبـها ،وآفات أعماهلا ما صرحوا بـها ،فأخذها الفالسفة ومزجوها بكالمهم ،توسالً ابلتجمل بـها إىل ترويج ابطلهم .ولقد كان يف عصرهم ،بل يف كل عصر ،مجاعة من املتأهلني ،ال خيلي هللا [ سبحانه ] العامل عنهم ،فأنـهم أواتد األرض ،بربكاتـهم تنـزل الرمحة على أهل األرض كما ورد يف اخلرب حيث قال صلى هللا عليه وسلّم: (( بـهم تمطرون وبـهم ترزقون ومنـهم كان أصحاب الكهف )).85 وكانوا يف سالف األزمنة ،على ما نطق بـه القرآن ،فتولد من مزجهم كالم النبوة وكالم الصوفية بكتبهم آفتان :آفة يف حق القابل وآفة يف حق الراد: - 1أما اآلفة اليت يف حق الراد فعظيمة :إذ ظنت طائفة من الضعفاء أن ذلك الكالم إذا كان مدوانً يف كتبهم ،وممزوجاً بباطلهم ،ينبغي أن يهجر وال يذكر بل ينكر على [ كل ] من يذكره ،إذ مل يسمعوه أوالً إال منهم ،فسبق إىل عقوهلم الضعيفة أنه ابطل ،ألن قائله مبطل ؛ كالذي يسمع من النصراين قوله (( :ال إله إال هللا عيسى رسول هللا )) فينكره ويقول (( :هذا كالم النصارى )) وال يتوقف ريثما يتأمل أن النصراين 84يف ق :كائنة. 85احلديث ليس له ختريج يف ش. - 20 - الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة كافر ابعتبار هذا القول ،أو ابعتبار إنكاره نبوة حممد عليه الصالة والسالم!؟ فإن مل يكن كافراً إال ابعتبار إنكاره ،فال ينبغي أن خيالف يف غري ما هو به كافر مما هو حق يف نفسه ،وإن كان أيضاً حقاً عنده .وهذه عادة ضعفاء العقول ،يعرفون احلق ابلرجال ،ال الرجال ابحلق .والعاقل يقتدي بسيد العقالء 86علي، 87 رضي هللا عنه 88حيث قال (( :ال تعرف الحق بالرجال ( بل ) اعرف الحق تعرف أهله )) و ( العارف ) العاقل يعرف احلق ،مث ينظر يف نفس القول :فإن كان حقاً ،قبله سواء كان قائله مبطالً أو حمقاً ؛ بل رمبا حيرص على انتزاع احلق من أقاويل 89أهل الضالل ،عاملاً أبن معدن الذهب الرغام .وال أبس على الصراف إن أدخل يده يف كيس القالب ،وانتزع اإلبريز اخلالص من الزيف والبهرج ،مهما كان واثقاً القروي ،دون الصرييف ( البصري ) ؛ ومينع من ساحل البحر األخرق ببصريته ؛ وامنا يزجر عن معاملة القالب ُّ املعزم البارع. ،دون السباح احلاذق ؛ ويصد عن مس احلية الصيب دون ّ ولعمري! ملا غلب على أكثر اخللق ظنهم أبنفسهم احلذاقة والرباعة ،وكمال العقل ( ومتام اآللة ) يف متييز احلق عن ( الباطل ،واهلدى عن ) الضاللة ،وجب حسم الباب يف زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل الضالل ما أمكن ،إذ ال يسلمون عن اآلفة الثانية اليت سنذكرها ( أصالً ) وإن سلموا عن ( هذه ) اآلفة اليت ذكرانها. ولقد اعرتض على بعض الكلمات املبثوثة يف تصانيفنا يف أسرار علوم الدين ،طائفة من الذين مل تستحكم يف العلوم سرائرهم ،ومل تنفتح إىل أقصى غاايت املذاهب بصائرهم ،وزعمت أن تلك الكلمات من كالم األوائل ،مع أن بعضها من مولدات اخلواطر -وال يبعد أن يقع احلافر على احلافر -وبعضها يوجد يف الكتب الشرعية ،وأكثرها موجود معناه يف كتب الصوفية. وهب أهنا مل توجد إال يف كتبهم ،فإذا كان ذلك الكالم معقوالً يف نفسه ،مؤيداً ابلربهان ،ومل يكن على خمالفة الكتاب والسنة ،فلم ينبغي أن يهجر ويرتك؟ فلو فتحنا هذا الباب ،وتطرقنا إىل أن يهجر كل حق سبق إليه خاطر مبطل ،للزمنا أن نـهجر كثرياً من احلق ،ولزمنا أن نـهجر مجلة آايت من آايت القرآن وأخبار الرسول صلى هللا عليه وسلّم وحكاايت السلف وكلمات احلكماء والصوفية ،ألن صاحب كتاب (( إخوان الصفا )) أوردها يف كتابـه مستشهداً بـها ومستدرجاً قلوب احلمقى بواسطتها إىل ابطله ؛ ويتداعى 86يف ق زاد :بقول أمري املؤمنني. 87يف ق زاد :بن أيب طالب. 88اإلمام علي كرم هللا وجهه ،هو ابن عم الرسول صلى هللا عليه وسلم تزوج ابنته فاطمة الزهراء ووالد احلسن واحلسني و رابع اخللفاء الراشدون وهو إمام يف الفقه واحلك مة والعدل ؛ اتفقت مجيع امللل على فضله و له مكارم وحماسن كثرية ليس هذا مقام ذكرها رضي هللا عنه. 89يف ق :تضاعيف كالم. - 21 - الغزايل املنقذ من الضالل :الفلسفة ذلك إىل أن يستخرج املبطلون احلق من أيدينا إبيداعهم إايه كتبهم .وأقل درجات العامل :أن يتميز عن العامي الغمر ،فال يعاف العسل ،وإن وجده يف حمجمة احلجام ،ويتحقق أن احملجمة ال تغري ذات العسل ،فإن نفرة الطبع عنه مبنية على جهل عامي منشؤه أن احملجمة ،إمنا صنعت للدم املستقذر ،فيظن أن الدم مستقذر لكونه يف احملجمة ،وال يدري أنه مستقذر لصفة يف ذاته ؛ فإذا عدمت ( هذه ) الصفة يف العسل فكونـه يف ظرفه ال يكسبه تلك الصفة ،فال ينبغي أن يوجب له االستقذار ،وهذا وهم ابطل ،وهو غالب على أكثر اخللق .فإذا نسبت الكالم وأسندته إىل قائل حسن فيه اعتقادهم ،قبلوه وإن كان ابطالً ؛ وإن أسندته إىل من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً .فأبداً يعرفون احلق ابلرجال وال يعرفون الرجال ابحلق ، وهو غاية الضالل! هذه آفة الرد. - 2واآلفة الثانية آفة القبول :فإن من نظر يف كتبهم (( كإخوان الصفا )) وغريه ،فرأى ما مزجوه بكالمهم من احلكم النبوية ،والكلمات الصوفية ،رمبا استحسنها وقبلها ،وحسن اعتقاده فيها ،فيسارع إىل قبول ابطلهم املمزوج بـه ،حلسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه ،وذلك نوع استدراج إىل الباطل. وألجل هذه اآلفة جيب الزجر عن مطالعة كتبهم ملا فيها من الغدر واخلطر .وكما جيب صون من ال حيسن السباحة على مزالق الشطوط ،جيب صون اخللق عن مطالعة تلك الكتب .وكما جيب صون الصبيان عن املعزم أن ال ميس احلية بني يدي مس احليات ،جيب صون األمساع عن خمتلط الكلمات وكما جيب على ّ ولده الطفل ،إذا علم أن سيقتدي به ويظن أنه مثله ،بل جيب عليه أن حي ّذره [ منه ] ،أبن حيذر هو [ يف املعزم احلاذق إذا أخذ ] نفسه [ وال ميسها ] بني يديه ،فكذلك جيب على العامل الراسخ مثله .وكما أن ّ احلية وميز بني الرتايق والسم ،واستخرج منها الرتايق وأبطل السم فليس له أن يشح ابلرتايق على احملتاج إليه .وكذا الصراف الناقد البصري إذا أدخل يده يف كيس القالّب ،وأخرج منه اإلبريز اخلالص ،واطّرح الزيف والبهرج ،فليس له أن يشح ابليد املرضي على من حيتاج إليه ؛ فكذلك العامل .وكما أن احملتاج إىل الرتايق ، إذا امشأزت نفسه منه ،حيث علم أنه مستخرج من احلية اليت هي مركز السم [ وجب تعريفه ] ،والفقري املضطر إىل املال ،إذا نفر عن قبول الذهب املستخرج من كيس القالّب ،وجب تنبيهه على أن نفرته جهل حمض ،هو سبب حرمأنه الفائدة اليت هي مطلبه ،وحتتم تعريفه أن قرب الوار بني الزيف واليد ال جيعل اليد زيفاً ،كما ال جيعل الزيف جيداً ،فكذلك قرب الوار بني احلق الباطل ،ال جيعل احلق ابطالً ،كما ال جيعل الباطل حقاً. فهذا ( مقدار ) ما أردان ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها. * * - 22 - * ب التع ِّليم وغائِّلته - 3القو ُل ِّفي مذه ِّ مث إين ملا فرغت من علم الفلسفة وحتصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه ،علمت أن ذلك أيضاً غري واف بكمال الغرض ،وأن العقل ليس مستقالً ابإلحاطة جبميع املطالب ،وال كاشفاً للغطاء عن مجيع املعضالت .وكان قد نبغت انبغة التعليمية ،وشاع بين اخللق حتدثهم مبعرفة معىن األمور من جهة اإلمام علي أمر املعصوم القائم ابحلق ّ ، فعن يل أن أحبث يف مقاالتـهم ،ألطّلع على ما يف كنانتهم .مث اتفق أن ورد ّ جازم من حضرة اخلالفة ،بتصنيف كتاب يكشف [ عن ] حقيقة مذهبهم .فلم يسعين مدافعته وصار ذلك مستحثاً من خارج ،ضميمة للباعث من الباطن ،فابتدأت بطلب كتبهم ومجع مقاالتـهم .وكذلك قد بلغين بعض كلماتـهم املستحدثة اليت ولدتـها خواطر أهل العصر ،ال على املنهاج املعهود من سلفهم .فجمعت تلك الكلمات ( ،ورتبتها ) ترتيباً حمكماً مقارانً للتحقيق ،واستوفيت الواب عنها ،حىت أنكر بعض أهل احلق ( مين ) مبالغيت يف تقرير حجتهم ،فقال (( :هذا سعي هلم ،فأنـهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم بـمثل هذه الشبهات لوال حتقيقك هلا ،وترتيبك إايها )) .وهذا اإلنكار من وجه حق ،فقد أنكر أمحد بن حنبل على احلارث احملاسيب ( رمحهما هللا ) ،تصنيفه يف الرد على املعتزلة ؛ فقال احلارث (( :الرد على البدعة فرض)) فقال أمحد (( :نعم ،ولكن حكيت شبهتهم أوالً مث أجبت عنها ؛ فبم أتمن أن يطالع الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ،وال يلتفت إىل الواب ،أو ينظر يف الواب وال يفهم كنهه؟ )). وما ذكره أمحد بن حنبل حق ،ولكن يف شبهة ( مل تنتشر ) ومل تشتهر .فأما إذا انتشرت ،فالواب عنها واجب وال ميكن الواب [ عنها ] إال بعد احلكاية .نعم ،ينبغي أن ال يتكلف هلم شبهة مل [ يتكلفوها ] ؛ ومل أتكلف أان ذلك ،بل كنت قد مسعت تلك الشبهة من واحد من أصحايب املختلفني إيل ،بعد أن كان قد التحق بـهم ؛ وانتحل مذهبـهم ،وحكى أنـهم يضحكون على تصانيف املصنفني يف الرد عليهم ،أبنـهم مل يفهموا بعد حجتهم .مث ذكر تلك احلجة وحكاها عنهم ،فلم أرض لنفسي أن يظن يف الغفلة عن اصل حجتهم ،فلذلك أوردتـها ،وال أن يظن يب أين -وإن مسعتها – مل أفهمها فلذلك قررهتا. واملقصود ،أين قررت شبهتهم إىل أقصى اإلمكان ،مث أظهرت فسادها [ بغاية الربهان ]. واحلاصل :أنه ال حاصل عند هؤالء ،وال طائل لكالمهم .ولوال سوء نصرة الصديق الاهل ،ملا انتهت تلك البدعة -مع ضعفها -إىل هذه الدرجة ؛ ولكن شدة التعصب ،دعت الذابني عن احلق إىل تطويل النـزاع معهم يف مقدمات كالمهم ،وإىل جماحدتـهم يف كل ما نطقوا به ،فجاحدوهم يف دعواهم (( :احلاجة إىل التعليم واملعلم )) .ويف دعواهم أنه (( :ال يصلح كل معلم ،بل ال بد من معلم معصوم )) .وظهرت حجتهم - 23 - الغزايل املنقذ من الضالل :مذهب التعليم يف إظهار احلاجة إىل التعليم واملعلم ،وضعف قول املنكرين يف مقابلته ،فاغرت بذلك مجاعة وظنوا أن ذلك من قوة مذهبهم وضعف مذهب املخالفني هلم ،ومل يفهموا أن ذلك لضعف انصر احلق وجعله بطريقه ؛ بل الصواب االعرتاف ابحلاجة إىل املعلم ،وأنه ال بد وأن يكون ( املعلم ) معصوماً ،ولكن معلمنا املعصوم ( هو ) حممد صلى هللا عليه وسلّم فإذا قالوا (( :هو ميت )) ،فنقول (( :ومعلمكم غائب )) ،فإذا قالوا(( : معلمنا قد علم الدعاة وبثهم يف البالد ،وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل )). فنقول (( :ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم يف البالد وأكمل التعليم إذ قال هللا تعاىل: (( اليوم أكملتُ لكم دينكم [ وأتممتُ عليكم نعمتي ] )) (املائدة)3 : وبعد كمال التعليم ال يضر موت املعلم كما ال يضر غيبته. فبقي قوهلم (( :كيف حتكمون فيما مل تسمعوه؟ أابلنص ومل تسمعوه ،أم ابإلجتهاد والرأي وهو مظنة اخلالف؟ )) فنقول (( :نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول هللا عليه [ الصالة ] والسالم إىل اليمن :أن حنكم ابلنص ،عند وجود النص وابإلجتهاد عند عدمه ( .90بل ) كما يفعله دعاهتم إذا بعدوا عن اإلمام إىل أقاصي البالد ،إذ ال ميكنـه أن حيكم ابلنص فإن النصوص املتناهية ال تستوعب الوقائع الغري املتناهية ،وال ميكنـه الرجوع يف كل واقعة إىل بلدة اإلمام ،وأن يقطع املسافة ويرجع فيكون املستفيت قد مات ،وفات االنتفاع ابلرجوع .فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق إال أن يصلي ابالجتهاد ،إذ لو سافر إىل بلدة اإلمام ملعرفة القبلة ،فيفوت وقت الصالة .فإذن جازت الصالة إىل غري القبلة بناء على الظن .ويقال (( :إن املخطيء يف االجتهاد له أجر واحد وللمصيب أجران )) .91فكذلك يف مجيع اجملتهدات ،وكذلك أمر صرف الزكاة إىل الفقري ،فرمبا يظنـه فقرياً ابجتهاده وهو غين ابطناً إبخفائه ماله ،فال يكون مؤاخذاً بـه وإن أخطأ ،ألنه مل يؤاخذ إال مبوجب ظنه .فإن قال (( :ظن خمالفه كظنه )) فأقول (( :هو مأمور ابتباع ظن نفسه ،كاجملتهد يف القبلة يتبع ظنه وإن خالفه غريه )) .فإن قال (( :فاملقلد يتبع أاب حنيفة والشافعي ( رمحهما هللا ) أم غريمها )) .فأقول (( :فاملقلد يف القبلة عند االشتباه ،يف معرفة األفضل األعلم بدالئل القبلة ،فيتبع ذلك االجتهاد ؛ فكذلك يف املذاهب)) . فرد اخللق إىل االجتهاد -ضرورة -األنبياء واألئمة مع العلم أبنـهم ( قد ) خيطئون ،بل قال رسول هللا ّ صلى هللا عليه وسلّم (( :أان أحكم ابلظاهر وهللا يتوىل السرائر )) .92أي أان أحكم بغالب الظن احلاصل من 90رواه أبو دواد والرتمذي وأمحد. 91رواه مسلم والبخاري وأبو دواد وابن ماجة والرتمذي والنسائي (اي الستة) وأمحد. 92قال احلافظ العراقي واحلافظ املزي :ال أصل له. - 24 - الغزايل املنقذ من الضالل :مذهب التعليم قول الشهود ،ورمبا أخطأوا فيه .وال سبيل إىل األمن من اخلطأ لألنبياء يف مثل هذه اجملتهدات ،فيكف يطمع يف ذلك؟ وهلم ها هنا سؤاالن :أحدمها قوهلم (( :هذا وإن صح يف اجملتهدات فال يصح يف قواعد العقائد ،إذ املخطئ فيه غري معذور ،فكيف السبيل إليه؟ )) فأقول (( :قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة ؛ وما وراء ذلك من التفصيل ،واملتنازع فيه ،يعرف احلق فيه ابلوزن ابلقسطاس املستقيم .وهي املوازين اليت ذكرها هللا ( تعاىل ) يف كتابه ،وهي مخسة ذكرتـها يف كتاب (( القسطاس املستقيم )) .فإن قال (( :خصومك خيالفونك يف ذلك امليزان )) .فأقول (( :ال يتصور أن يفهم ذلك امليزان مث خيالف فيه [ إذ ال خيالف فيه ] أهل التعليم ،ألين استخرجته من القرآن وتعلمته منه ،وال خيالف فيه أهل املنطق ،ألنه موافق ملا شرطوه يف املنطق ، وغري خمالف له ؛ وال خيالف فيه املتكلم ألنه موافق ملا يذكره يف أدلة النظرايت ،وبه يعرف احلق يف الكالميات )) .فإن قال (( :فإن كان يف يدك مثل هذا امليزان فلم ال ترفع اخلالف بني اخللق؟ )) فأقول(( : لو أصغوا إيل لرفعت اخلالف بينهم ؛ وذكرت طريق رفع اخلالف يف كتاب (( القسطاس املستقيم )) ،فتأمله لتعلم أنه حق وأنه يرفع اخلالف قطعاً لو أصغوا وال يصغون [ إليه ] أبمجعهم! بل قد أصغى إيل طائفة ، فرفعت اخلالف بينهم .وإمامك يريد رفع اخلالف بينهم مع عدم إصغائهم ،فلم مل يرفع إىل اآلن؟ ومل مل يرفع علي رضي هللا عنـه ،وهو رأس األئمة؟ أو يدعي أنه يقدر على محل كافتهم على اإلصغاء قهراً ،فلم مل حيملهم إىل اآلن؟ وألي يوم أجله؟ وهل حصل بني اخللق بسبب دعوته إال زايدة خالف وزايدة خمالف؟ نعم! كان خيشى من اخلالف نوع الضرر ال ينتهي إىل سفك الدماء ،وختريب البالد وأيتام األوالد ،وقطع الطرق ،واإلغارة على األموال .وقد حدث يف العامل من بركات رفعكم اخلالف [ من اخلالف ] ما مل يكن مبثله عهد )) .فإن قال (( :ادعيت أنك ترفع اخلالف بني اخللق ولكن املتحري بني املذاهب املتعارضة ، واالختالفات املتقابلة ،مل يلزمه اإلصغاء إليك دون خصمك ،وأكثر اخلصوم خيالفونك ،وال فرق بينك وبينهم)) . وهذا هو سؤاهلم الثاين فأقول (( :هذا أوالً ينقلب عليك ،فإنك إذا دعوت هذا املتحري إىل نفسك فيقول املتحري ،مبا صرت أوىل من خمالفيك ،وأكثر أهل العلم خيالفونك؟ فليت شعري! مباذا جتيب ،أجتيب أبن تقول :إمامي منصوص عليه؟ فمن يصدقك يف دعوى النص ،وهو مل يسمع النص من الرسول؟ وإمنا يسمع دعواك مع تطابق أهل العلم على اخرتاعك وتكذيبك .مث هب أنه سلم لك النص ،فإن كان متحرياً يف أصل النبوة ،فقال :هب أن إمامك يديل مبعجزة عيسى عليه السالم فيقول :الدليل على صدقي أين أحيي أابك ،فأحياه ،فناطقين أبنه حمق ،فبماذا أعلم صدقه؟ ومل يعلم كافة اخللق صدق عيسى عليه السالم بـهذه املعجزة ،بل عليه من األسئلة املشكلة ما ال يدفع إال بدقيق النظر العقلي ؛ والنظر العقلي ال يوثق به عندك - 25 - الغزايل املنقذ من الضالل :مذهب التعليم ،وال يعرف داللة املعجزة على الصدق ما مل يعرف السحر والتمييز بينه وبني املعجزة ،وما مل يعرف أن هللا ال يضل عباده - .وسؤال اإلضالل وعسر [ حترير ] الواب عنه مشهور -فبماذا تدفع مجيع ذلك؟ ومل يكن إمامك أوىل ابملتابعة من خمالفه! )) فريجع إىل األدلة النظرية اليت ينكرها ،وخصمه يديل مبثل تلك األدلة وأوضح منها .وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقالابً عظيما ،لو اجتمع أوهلم وآخرهم على أن جييبوا عنه جواابً مل يقدروا عليه. وإمنا نشأ الفساد من مجاعة من الضعفة انظروهم ،فلم يشتغلوا ابلقلب ،بل ابلواب .وذلك مما يطول فيه الكالم ،وما ال يسبق سريعاً إىل اإلفهام ،فال يصلح لإلفحام .فإن قال قائل (( :فهذا هو القلب ،فهل عنه جواب؟ )) فأقول (( :نعم! جوابه أن املتحري لو قال :أان متحري ،ومل يعني املسألة اليت هو متحري فيها ، يقال له :أنت كمريض يقول :أان مريض وال يعني مرضه ،ويطلب عالجه .فيقال له :ليس يف الوجود عالج للمرض املطلق ،بل ملرض معني :من صداع أو إسهال أو غريمها .فكذلك املتحري ينبغي أن يعني ما هو عرفته احلق فيها ابلوزن ابملوازين اخلمسة ،اليت ال يفهمها أحد إال ويعرتف أبنه متحري فيه ؛ فإن عني املسألة ّ امليزان احلق ،الذي يوثق بكل ما يوزن به ،فيفهم امليزان ،ويفهم منه أيضاً صحة الوزن ،كما يفهم متعلم علم احلساب نفس احلساب ،وكون احملاسب املعلم عاملاً ابحلساب وصادقاً فيه )) .وقد أوضحت ذلك يف كتاب (( القسطاس املستقيم )) يف مقدار عشرين ورقة ؛ فليتأمل. وليس املقصود اآلن بيان فساد مذهبهم ،فقد ذكرت ذلك يف كتاب (( املستظهري )) أوالً ؛ ويف كتاب (( حجة احلق )) اثنياً ،وهو جواب كالم هلم عرض علي ببغداد ؛ ويف كتاب (( مفصل اخلالف )) الذي هو اثنا عشر فصالً اثلثاً ؛ وهو جواب كالم عرض علي بـهمدان ؛ ويف كتاب (( الدرج )) املرقوم (( ابلداول )) رابعاً ،وهو من ركيك كالمهم الذي عرض علي بطوس ؛ ويف كتاب (( القسطاس املستقيم )) خامساً ، وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار االستغناء عن االمام [ املعصوم ] ملن أحاط به. بل املقصود أن هؤالء ليس معهم شيء من الشفاء املنجي من ظلمات اآلراء ،بل هم ،مع عجزهم عن إقامة الربهان على تعيني اإلمام ،طال ما جاريناهم 93فصدقناهم يف احلاجة إىل التعليم وإىل املعلم املعصوم وأنه الذي عينوه ،مث سألناهم عن العلم الذي تعلموه من هذا املعصوم وعرضنا عليهم إشكاالت فلم يفهموها ،فضالً عن القيام حبلّها! فلما عجزوا أحالوا [ على ] اإلمام الغائب ،وقالوا ( (( :أنه ) ال بد من 93يف ق :جربناهم. - 26 - الغزايل املنقذ من الضالل :مذهب التعليم السفر إليه )) .والعجب أنـهم ضيعوا عمرهم يف طلب املعلم ويف التبجح ابلظفر به ،ومل يتعلموا منه شيئاً كاملتضمخ 94ابلنجاسة ،يتعب يف طلب املاء حىت إذا وجده مل يستعمله ،وبقي متضمخاً ابخلبائث. أصالً ، ّ ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم ،فكان حاصل ما ذكره شيئاً من ركيك فلسفة فيثاغورس :وهو رجل من قدماء األوائل ،ومذهبـه أرك مذاهب الفلسفة ،وقد رد عليه أرسطاطاليس ،بل اسرتك كالمه واسرتذله ، وهو احملكي يف كتاب (( إخوان الصفا )) ،وهو على التحقيق حشو الفلسفة. فالعجب ممن يتعب طول العمر يف حتصيل العلم مث يقنع مبثل ذلك العلم الركيك املستغث ،ويظن أبنه ظفر أبقصى مقاصد العلوم! فهؤالء أيضاً جربناهم وسربان ظاهرهم وابطنهم ؛ فرجع حاصلهم إىل استدراج العوام ، وضعفاء العقول ببيان احلاجة إىل املعلم ،وجمادلتهم يف إنكارهم احلاجة إىل التعليم بكالم قوي مفحم ،حىت إذا ساعدهم على احلاجة إىل املعلم مساعد ،وقال (( :هات علمه وأفدان من تعليمه! )) وقف وقال(( : اآلن إذا سلمت يل هذا فاطلبه ،فإمنا غرضي هذا القدر فقط )) .إذ علم أنه لو زاد على ذلك الفتضح ولعجز عن حل أدىن اإلشكاالت ،بل عجز عن فهمه ،فضالً عن جوابـه. فهذه حقيقة حاهلم فأخربهم تـقلهم 95فلما خربانهم 96نفضنا اليد عنهم ( أيضاً ). * * 94التضمخ :التلطخ ،يقال يف الطيب. 95اخربهم :امتحنهم ؛ وتقلهم :تبغضهم. 96يف ق :جربناهم. - 27 - * ُ -4 ط ُرق الصوفِّية مث إين ،ملا فرغت من هذه العلوم ،أقبلت بـهميت على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إمنا تتم بعلم وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس .والتنـزه عن أخالقها املذمومة وصفاهتا اخلبيثة ،حىت يتوصل ( بـها ) إىل ختلية القلب عن غري هللا ( تعاىل ) وحتليته بذكر هللا. علي من العمل .فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل (( :قوت القلوب )) وكان العلم أيسر ّ أليب طالب املكي ( رمحه هللا ) وكتب (( احلارث احملاسيب )) ،واملتفرقات املأثورة عن ((النيد)) و (( الشبلي )) و (( أيب يزيد البسطامي )) [ قدس هللا أرواحهم ] ،وغريهم من املشايخ ؛ حىت اطلعت على كنه مقاصدهم العلمية ،وحصلت ما ميكن أن حيصل من طريقهم ابلتعلم والسماع .فظهر يل أن أخص خواصهم ،ما ال ميكن الوصول إليه ابلتعلم بل ابلذوق واحلال وتبدل الصفات .وكم من الفرق بني أن تعلم حد الصحة وحد الشبع وأسبابـهما وشروطهما ،وبني أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبني أن تعرف حد السكر ، وأنه عبارة عن حالة حتصل من استيالء أخبرة تتصاعد من املعدة على معادن الفكر ،وبني أن تكون سكران! بل السكران ال يعرف ح ّد السكر وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء! والصاحي يعرف ح ّد السكر واركأنه وما معه من السكر شيء .والطبيب يف حالة املرض يعرف ح ّد الصحة وأسبابـها وأدويتها ،وهو فاقد الصحة .فكذلك فرق بني أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه ،وبني أن تكون حالك الزهد وعزوف النفس عن الدنيا! فعلمت يقيناً أنـهم أرابب األحوال ،ال أصحاب األقوال .وأن ما ميكن حتصيله بطريق العلم فقد حصلته ، ومل يبق إال ما ال سبيل إليه ابلسماع والتعلم ،بل ابلذوق والسلوك .وكان ( قد ) حصل معي -من العلوم اليت مارستها واملسالك اليت سلكتها ،يف التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية -إميان يقيين ابهلل تعاىل ،وابلنبـ ّوة وابليوم اآلخر. فهذه األصول الثالثة من اإلميان كانت قد رسخت يف نفسي ،ال بدليل معني حمرر 97بل أبسباب وقرائن وجتارب ال تدخل حتت احلصر تفاصيلها. 97يف ق :جمرد. - 28 - الغزايل املنقذ من الضالل :طرق الصوفية وكان قد ظهر عندي أنه ال مطمع ( يل ) يف سعادة اآلخرة إال ابلتقوى ،وكف النفس عن اهلوى ،وأن رأس ذلك كله ،قطع عالقة القلب عن الدنيا ابلتجايف عن دار الغرور ،واإلانبة إىل دار اخللود ،واإلقبال بكنه اهلمة على هللا تعاىل .وأن ذلك ال يتم إال ابإلعراض عن الاه واملال ،واهلرب من الشواغل والعالئق. مث الحظت أحوايل ؛ فإذا أان منغمس يف العالئق ،وقد أحدقت يب من الوانب ؛ والحظت أعمايل – وأحسنها التدريس والتعليم -فإذا أان فيها مقبل على علوم غري مهمة وال انفعة يف طريق اآلخرة. مث تفكرت يف نييت يف التدريس فإذا هي غري خالصة لوجه هللا تعاىل ،بل ابعثها وحمركها طلب الاه وانتشار الصيت ؛ فتيقنت أين على شفا جرف هار ،وأين قد أشفيت على النار ،إن مل أشتغل بتاليف األحوال. فلم أزل أتفكر فيه مدة ،وأان بعد على مقام االختيار ،أصمم العزم على اخلروج من بغداد ومفارقة تلك األحوال يوماً ،وأحل العزم يوماً ،وأقدم فيه رجالً وأؤخر عنه أخرى .ال تصدق يل رغبة يف طلب اآلخرة بكرة ،إال وحيمل عليها جند الشهوة محلة فيفرتها عشية .فصارت شهوات الدنيا جتاذبين بسالسلها إىل املقام ،ومنادي اإلميان ينادي :الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إال قليل ،وبني يديك السفر الطويل ، ومجيع ما أنت فيه من العلم والعمل رايء وختييل! فإن مل تستعد اآلن لآلخرة فمىت تستعد؟ وإن مل تقطع اآلن [ هذه العالئق ] فمىت تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ،وينجزم العزم على اهلرب والفرار. مث يعود الشيطان ويقول (( :هذه حال عارضة ،إايك أن تطاوعها ،فأنـها سريعة الزوال ؛ فإن أذعنت هلا وتركت هذا الاه العريض ،والشأن املنظوم اخلايل عن التكدير والتنغيص ،واألمر املسلم الصايف عن منازعة اخلصوم ،رمبا التفتت إليه نفسك ،وال يتيسر لك املعاودة)) . فلم أزل أتردد بني جتاذب شهوات الدنيا ،ودواعي اآلخرة ،قريباً من ستة أشهر أوهلا رجب سنة مثان ومثانني وأربع مائة .ويف هذا الشهر 99جاوز األمر حد االختيار إىل االضطرار ،إذ أقفل هللا على لساين حىت اعتقل عن التدريس ،فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب املختلفة [ إيل ] ،فكان ال ينطق لساين بكلمة [ واحدة ] وال أستطيعها البتة ،حىت أورثت هذه العقلة يف اللسان حزانً يف القلب ، 98 بطلت معه قوة اهلضم ومراءة الطعام والشراب :فكان ال ينساغ يل ثريد ،وال تنهضم ( يل ) لقمة ؛ وتعدى 98يف بعض النسخ (( سنة ست )). 99هذا هو قمة األزمة الروحية عندة وسببها هو اخلوف من اهلالك اآلخروي كما قال عبدالغافر الفارسي (( :فتح عليه ابب من أبواب اخلوف )) .ولعل من االسباب اليت أدت إىل هذه األزمة هو دراسة كتب الصوفيني وسريتـهم .ويف هذه الفرتة الزمنية يذكر أبن كثري أن عاملاً دخل بغداد كثري من العباد ورجعوا إىل هللا وكثري منهم من زهد يف الدنيا وتنسك .انظر فيما كتبـه د .مصطفى حممود أبو ودرس يف الناظمية وعلى يديه اتب ً صوى عن هذه األزمة وما كتبتة أان يف هذا املوضوع ،والدير ابلذكر أن هذه األزمة هي غري (فرتة الشك) اليت عاىن منها وذكرها يف فصل مداخل السفسطة وجحد العلوم . - 29 - الغزايل املنقذ من الضالل :طرق الصوفية إىل ضعف القوى ،حىت قطع األطباء طمعهم من العالج وقالوا (( :هذا أمر نـزل ابلقلب ،ومنه سرى إىل املزاج ،فال سبيل إليه ابلعالج ،إال أبن يرتوح السر عن اهلم امللم )). مث ملا أحسست بعجزي ،وسقط ابلكلية اختياري ،التجأت إىل هللا تعاىل التجاء املضطر الذي ال حيلة له ،فأجابين الذي (( جييب املضطر إذا دعاه )) ،وسهل على قليب اإلعراض عن الاه واملال ( واألهل والولد واألصحاب ) ،وأظهرت عزم اخلروج إىل مكة وأان أدبّر يف نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع اخلليفة ومجلة األصحاب على عزمي على املقام يف الشام ؛ فتلطفت بلطائف احليل يف اخلروج من بغداد على عزم أن ال أعاودها أبداً .واستهدفت ألئمة أهل العراق كافة ،إذ مل يكن فيهم من جيوز أن يكون لإلعراض عما كنت ديين ،إذ ظنوا أن ذلك هو املنصب األعلى يف الدين ،وكان ذلك مبلغهم من العلم. فيه سبب ّ مث ارتبك الناس يف االستنباطات ،وظن من بعد عن العراق ،أن ذلك كان الستشعار من جهة الوالة ؛ ( وأما من قرب من الوالة ) :كان يشاهد إحلاحهم يف التعلق يب واالنكباب علي ،وإعراضي عنهم ،وعن االلتفات إىل قوهلم ،فيقولون (( :هذا أمر مساوي ،وليس له سبب إال عني أصابت أهل اإلسالم وزمرة أهل العلم )). ففارقت بغداد ،وفرقت ما كان معي من املال ،ومل أدخر إال قدر الكفاف ،وقوت األطفال ،ترخصاً أبن مال العراق مرصد للمصاحل ،ولكونه وقفاً على املسلمني .فلم أر يف العامل ماالً أيخذه العامل لعياله أصلح منه. مث دخلت الشام ،وأقمت به قريباً من سنتني ال شغل يل إال العزلة واخللوة ؛ والرايضة واجملاهدة ،اشتغاالً بتزكية النفس ،وتـهذيب األخالق ،وتصفية القلب لذكر هللا ( تعاىل ) ،كما كنت حصلته من كتب الصوفية .فكنت أعتكف مدة يف مسجد دمشق ،أصعد منارة املسجد طول النهار ،وأغلق اببـها على نفسي. مث رحلت منها إىل بيت املقدس ،أدخل كل يوم الصخرة ،وأغلق اببـها على نفسي. 100 مث حتركت يف داعية فريضة احلج ،واالستمداد من بركات مكة واملدينة .وزايرة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم بعد الفراغ من زايرة اخلليل صلوات هللا وسالمه عليه ؛ فسرت إىل احلجاز. مث جذبتين اهلمم ،ودعوات األطفال إىل الوطن ،فعاودته بعد أن كنت أبعد اخللق عن الرجوع إليه .فآثرت العزلة [ به ] أيضاً حرصاً على اخللوة ،وتصفية القلب للذكر. 100يف ق :علم. - 30 - الغزايل املنقذ من الضالل :طرق الصوفية وكانت حوادث الزمان ،ومهمات العيال ،وضرورات املعاش ، 101تغري يف وجه املراد ،وتشوش صفوة اخللوة .وكان ال يصفو [ يل ] احلال إال يف أقوات متفرقة .لكين مع ذلك ال أقطع طمعي منها ،فتدفعين عنها العوائق ،وأعود إليها. ودمت على ذلك مقدار عشر سنني ؛ وانكشفت يل يف أثناء هذه اخللوات أمور ال ميكن إحصاؤها واستقصاؤها ،والقدر الذي أذكره لينتفع به :إين علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق هللا ( تعاىل ) خاصة ،وأن سريهتم أحسن السري ،وطريقهم أصوب الطرق ،وأخالقهم أزكى األخالق .بل لو مجع عقل العقالء ،وحكمة احلكماء ،وعلم الواقفني على أسرار الشرع من العلماء ،ليغريوا شيئاً من سريهم وأخالقهم ،ويبدلوه مبا هو خري منه ،مل جيدوا إليه سبيالً .فإن مجيع حركاتـهم وسكناتـهم ،يف ظاهرهم وابطنهم ، مقتبسة من ( نور ) مشكاة النبوة ؛ وليس وراء نور النبوة على وجه األرض نور يستضاء به. وابلملة ،فماذا يقول القائلون يف طريقة ،طهارتـها -وهي أول شروطها -تطهري القلب ابلكلية عما سوى هللا ( تعاىل ) ،ومفتاحها الاري منها جمرى التحرمي من الصالة ،استغراق القلب ابلكلية بذكر هللا ، وآخرها الفناء ابلكلية يف هللا؟ وهذا آخرها ابإلضافة إىل ما يكاد يدخل حتت االختيار والكسب من أوائلها. وهي على التحقيق أول الطريقة ،وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه. ومن أول الطريقة تبتدئ املكاشفات ( واملشاهدات ) ،حىت أنـهم يف يقظتهم يشاهدون املالئكة ،وأرواح األنبياء ويسمعون منهم أصوااتً ويقتبسون منهم فوائد .مث يرتقى احلال من مشاهدة الصور واألمثال ،إىل درجات يضيق عنها نطاق النطق ،فال حياول معرب أن يعرب عنها إال اشتمل لفظه على خطأ صريح ال ميكنه االحرتاز عنه. وعلى الملة .ينتهي األمر إىل قرب يكاد يتخيل منه طائفة احللول ،وطائفة االحتاد ،وطائفة الوصول ،وكل ذلك خطأ .وقد بينا وجه اخلطأ فيه يف كتاب (( املقصد األسىن )) ؛ بل الذي البسته تلك احلالة ال ينبغي أن يزيد على أن يقول : فظن خرياً وال تسأل عن اخلرب! وكان ما كان مما لست أذكره 102 101يف ق :املعيشة. 102هذا البيت البن املعتز. - 31 - الغزايل املنقذ من الضالل :طرق الصوفية وابلملة ،فمن مل يرزق منه شيئاً ابلذوق ،فليس يدرك من حقيقة النبوة إال االسم ،وكرامات األولياء [ ، هي ] على التحقيق ،بداايت األنبياء ،وكان ذلك أول حال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،حني أقبل إىل جبل (( حراء )) ،حيث كان خيلو فيه بربه ويتعبد ،حىت قالت العرب (( :إن حممداً عشق ربه!)). وهذه حالة ،يتحققها ابلذوق من يسلك سبيلها .فمن مل يرزق الذوق ،فيتيقنها ابلتجربة والتسامع ،إن أكثر معهم الصحبة ،حىت يفهم ذلك بقرائن األحوال يقيناً .ومن جالسهم ،استفاد منهم هذا اإلميان .فهم القوم ال يشقى جليسهم .ومن مل يرزق صحبتهم ،فليعلم إمكان ذلك يقيناً بشواهد الربهان ،على ما ذكرانه يف كتاب (( عجائب القلب )) من كتب (( إحياء علوم الدين )). والتحقيق ابلربهان علم ،ومالبسة عني تلك احلالة ذوق ،والقبول من التسامع والتجربة حبسن الظن إميان. فهذه ثالث درجات : (( يرفعِّ هللا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجا ٍ ت )) (اجملادلة:58 : )11 ووراء هؤالء قوم جهال ،هم املنكرون ألصل ذلك ،املتعجبون من هذا الكالم ،يستمعون ويسخرون ، ويقولون :العجب ! أنـهم كيف يهذون ! وفهيم قال هللا تعاىل : (( ومنـهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من ِّعندك قالوا للذين أ ُوتوا العلم ماذا قال آنفا ً أولئك الذين طبع هللا على قلوبـهم واتبعوا أهواءهم )) هم وأعمى أبصارهم ) (حممد )16 :47 : ( فأصم ُ ومما ابن يل ابلضرورة من ممارسة طريقتهم (( ،حقيقة النبوة وخاصيتها )) .وال بد من التنبيه 103على أصلها لشدة مسيس احلاجة إليها. 103يف ق :التنويه. - 32 - واضطرار كاف ِّة الخلق إليها حقيقة النُبُوة: ِّ اعلم :أن جوهر اإلنسان يف أصل الفطرة ،خلق خالياً ساذجاً ال خرب معه من عوامل هللا ( تعاىل )! والعوامل كثرية ال حيصيها إال هللا تعاىل كما قال: (( وما يعلم جنود ُ ربك إال هو )) (املدثر )31 :74 : وإمنا خربه من العوامل بواسطة اإلدراك ،وكل إدراك من اإلدراكات خلق ليطلع اإلنسان به على عامل من املوجودات ،ونعين ابلعوامل ،أجناس املوجودات. فأول ما خيلق يف اإلنسان حاسة اللمس ،فيدرك بـها أجناساً من املوجودات :كاحلرارة ،والربودة ،والرطوبة واليبوسة ،واللني واخلشونة ،وغريها .واللمس قاصر عن األلوان واألصوات قطعاً ،بل هي كاملعدوم يف حق اللمس. مث ختلق له [ حاسة ] البصر ،فيدرك بـها األلوان واألشكال ،وهو أوسع عوامل احملسوسات. مث ينفخ فيه السمع ،فيسمع األصوات والنغمات. مث خيلق له الذوق .وكذلك إىل أن جياوز عامل احملسوسات ،فيخلق فيه التمييز ،وهو قريب من سبع سنني ، وهو طور آخر من أطوار وجوده :فيدرك فيه أموراً زائدة على ( عامل ) احملسوسات ،ال يوجد منها شيء يف عامل احلس. مث يرتقى إىل طور آخر ،فيخلق له العقل ،فيدرك الواجبات والائزات واملستحيالت ،وأموراً ال توجد يف األطوار اليت قبله. ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عني أخرى يبصر بـها الغيب وما سيكون يف املستقبل ،وأموراً أخر ،العقل معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك املعقوالت وكعزل قوة احلس عن مدركات التمييز .وكما أن املميز لو عرضت عليه مدركات العقل ألابها واستبعدها ،فكذلك بعض العقالء أبوا مدركات النبوة واستبعدوها ، وذلك عني الهل :إذ ال مستند هلم إال أنه طور مل يبلغه ومل يوجد يف حقه ،فيظن أنه غري موجود يف نفسه. يقر بـها .وقد واألكمه ،لو مل يعلم ابلتواتر والتسامع األلوان واألشكال وحكي له ذلك ابتداءً ،مل يفهمها ومل ّ قرب هللا تعاىل على خلقه أبن أعطاهم منوذجاً 104من خاصية النبوة ،وهو النوم :إذ النائم يدرك ما سيكون من الغيب ،إما صرحياً وإما يف كسوة مثال يكشف عنـه التعبري .وهذا لو مل جيربه اإلنسان من نفسه -وقيل 104يف ش :أمنوذجاً. - 33 - الغزايل املنقذ من الضالل :حقيقة النبوة له (( :إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كامليت ،ويزول ( عنه ) إحساسه ومسعه وبصره فيدرك الغيب. )) – ألنكره ،وأقام الربهان على استحالته ،وقال (( :القوى احلساسة أسباب اإلدراك ،فمن ال يدرك األشياء مع وجودها وحضورها ،فبأن ال يدرك مع ركودها أوىل وأحق )) .وهذا نوع قياس يكذبه الوجود واملشاهدة .فكما أن العقل طور من أطوار اآلدمي ،حيصل فيه عني يبصر بـها أنواعاً من املعقوالت ، واحلواس معزولة عنها ،فالنبوة أيضاً عبارة عن طور حيصل فيه عني هلا نور يظهر يف نورها الغيب ،وأمور ال يدركها العقل. والشك يف النبوة ،إما أن يقع :يف إمكأنـها ،أو يف وجودها ووقوعها ،أو يف حصوهلا لشخص معني. ودليل إمكأنـها وجودها .ودليل وجودها وجود معارف يف العامل ال يتصور أن تنال ابلعقل ،كعلم الطب والنجوم ؛ فإن من حبث عنها علم ابلضرورة أهنا ال تدرك إال إبهلام إهلي وتوفيق من جهة هللا ( تعاىل ) ،وال سبيل إليها ابلتجربة .فمن األحكام النجومية ما ال يقع إال يف كل ألف سنة مرة ،فكيف ينال ذلك ابلتجربة ؟ وكذلك خواص األدوية .فتبني بـهذا الربهان أن يف اإلمكان وجود طريق إلدراك هذه األمور اليت ال يدركها العقل -وهو املراد ابلنبوة -ال أن النبوة عبارة عنها فقط ،بل إدراك هذا النس اخلارج عن مدركات العقل إحدى خواص النبوة ،وهلا خواص كثرية سواها .وما ذكران ،فقطرة من حبرها ؛ إمنا ذكرانها ألن معك أمنوذجاً منها ،وهو مدركاتك يف النوم ؛ ومعك علوم من جنسها يف الطب والنجوم ،وهي معجزات األنبياء ( عليهم الصالة والسالم ) ،وال سبيل إليها للعقالء ببضاعة العقل أصالً. وأما ما عدا هذا من خواص النبوة ،فإمنا يدرك ابلذوق ،من سلوك طريق التصوف ؛ ألن هذا إمنا فهمته أبمنوذج رزقته وهو النوم ،ولواله ملا صدقت به .فإن كان للنيب خاصة ليس لك منها أمنوذج ،وال تفهمها أصالً ،فكيف تصدق بـها ؟ وإمنا التصديق بعد الفهم :وذلك األمنوذج حيصل يف أوائل طريق التصوف فيحصل به نوع من الذوق ابلقدر احلاصل ونوع من التصديق مبا مل حيصل ابلقياس ( إليه ) .فهذه اخلاصية الواحدة تكفيك لإلميان أبصل النبوة. فإن وقع لك الشك يف شخص معني ،أنه نيب أم ال ،فال حيصل اليقني إال مبعرفة أحواله ،إما ابملشاهدة ، أو ابلتواتر والتسامع ؛ فإنك إذا عرفت الطب والفقه ،ميكنك أن تعرف الفقهاء واألطباء مبشاهدة أحواهلم ، ومساع أقواهلم ،وإن مل تشاهدهم ؛ وال تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي ( رمحه هللا ) فقيهاً ،وكون جالينوس طبيباً ،معرفة ابحلقيقة ال ابلتقليد عن الغري [ ،بل ] أبن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع كتبهما وتصانيفهما ،فيحصل لك علم ضروري حباهلما .فكذلك إذا فهمت معىن النبوة فأكثرت النظر يف القرآن واألخبار ،حيصل لك العلم الضروري بكونه صلى هللا عليه وسلم على أعلى درجات النبوة ،وأعضد ذلك بتجربة ما قاله يف العبادات وأتثريها يف تصفية القلوب ،وكيف صدق صلى هللا عليه وسلم يف قوله: - 34 - الغزايل املنقذ من الضالل :حقيقة النبوة (( من عمل بما علم ورثهُ هللا علم ما لم يعلم )) وكيف صدق يف قوله: 105 (( من أعان ظالما ً سلطهُ هللا علي ِّه )) 106 وكيف صدق يف قوله: (( من اصبح و ُه ُمو ُمهُ ه ٌّم واحدٌ كفاه هللا ( تعالى ) ُه ُموم الدنيا واآلخر ِّة )).107 فإذا جربت ذلك يف ألف وألفني وآالف ،حصل لك علم ضروري ال تتمارى فيه. فمن هذا الطريق اطلب اليقني ابلنبوة ،ال من قلب العصا ثعباانً ،وشق القمر ،فإن ذلك إذا نظرت إليه وحده ،ومل تنضم إليه القرائن الكثرية اخلارجة عن احلصر ،ورمبا ظننت أنه سحر وختييل ،وأنه من هللا تعاىل إضالل فأنه ضل من يشا ُء ويهدي من يشا ُء )) (فاطر.)8: (( يُ ِّ وترد عليك أسئلة املعجزات ،فإذا كان مستند إميانك إىل كالم منظوم يف وجه داللة املعجزة ،فينجزم إميانك بكالم مرتب يف وجه اإلشكال والشبهة عليها ،فليكن مثل هذه اخلوارق إحدى الدالئل والقرائن يف مجلة نظرك ،حىت حيصل لك علم ضروري ال ميكنك ذكر مستنده على التعيني كالذي خيربه مجاعة خبرب متواتر ال ميكنه أن يذكر أن اليقني مستفاد من قول واحد معني ،بل من حيث ال يدري ،وال خيرج عن مجلة ذلك وال بتعيني اآلحاد .فهذا هو اإلميان القوي العلمي. وأما الذوق فهو كاملشاهدة واألخذ ابليد ،وال يوجد إال يف طريق الصوفية. فهذا القدر من حقيقة النبوة ،كاف يف الغرض الذي أقصده اآلن ،وسأذكر وجه احلاجة إليه. 105غري موجود يف كتب احلديث املشهورة. 106رواه أبن عساكر عن أبن مسعود وهو حديث ضعيف. 107رواه أبن ماجة عن أبن مسعود واسناده ضعيف ،فيه نـهشل بن سعيد .قيل فيه أنه يروى املناكري ،وقيل بل املوضوعات. - 35 - اض عنـه سبب نشر ال ِّعلم بعد اإلعر ِّ مث إين ،ملا واظبت على العزلة واخللوة قريباً من عشر سنني ،ابن يل يف أثناء ذلك على الضرورة من أسباب ال أحصيها ،مرة ابلذوق ،ومرة ابلعلم الربهاين ،ومرة ابلقبول اإلمياين :أن اإلنسان خلق من بدن وقلب - 108وأعين ابلقلب حقيقة روحه اليت هي حمل معرفة هللا ،دون اللحم والدم الذي يشارك فيه امليت والبهيمة ، -وأن البدن له صحة بـها سعادته ومرض فيه هالكه ؛ وأن القلب كذلك له صحة وسالمة ،وال ينجو (( إال من أتى هللا بقلب سليم )) (الشعراء )89:؛ وله مرض فيه هالكه األبدي األخروي ،كما مرض ))( 109البقرة )10:وأن الهل ابهلل سم مهلك ؛ وأن معصية هللا ، قال تعاىل (( :في قلوبـهم ٌ مبتابعة اهلوى ،داؤه املمرض ،وأن معرفة هللا تعاىل ترايقه احمليي ،وطاعته مبخالفة اهلوى ،دواؤه الشايف ؛ وأنه ال سبيل إىل معالتة ابزالة مرضه وكسب صحته ،اال أبدوية ؛ كما ال سبيل إىل معالة البدن إال بذلك. وكما أن أدوية البدن تؤثر يف كسب الصحة خباصية فيها ،ال يدركها العقالء ببضاعة العقل ،بل جيب فيها تقليد األطباء الذين أخذوها من األنبياء ،الذين اطلعوا خباصية النبوة على خواص األشياء ،فكذلك ابن يل ،على الضرورة ،أبن أدوية العبادات حبدودها ومقاديرها احملدودة املقدرة من جهة األنبياء ،ال يدرك وجه أتثريها ببضاعة عقل العقالء ،بل جيب فيها تقليد األنبياء الذين أدركوا تلك اخلواص بنور النبوة ،ال ببضاعة العقل .وكما أن األدوية تركب من ( أخالط خمتلفة ) النوع واملقدار وبعضها ضعف البعض يف الوزن واملقدار ،فال خيلو اختالف مقاديرها عن سر هو من قبيل اخلواص ،فكذلك العبادات اليت هي أدوية داء القلوب ، مركبة من أفعال خمتلفة النوع واملقدار ،حىت أن السجود ضعف الركوع ،وصالة الصبح نصف صالة العصر يف املقدار ؛ وال خيلو عن سر من االسرار ،هو من قبيل اخلواص اليت ال يطلع عليها اال بنور النبوة .ولقد حتامق وجتاهل جداً من أراد أن يستنبط ،بطريق العقل ،هلا حكمة ،أو ظن أنـها ذكرت على االتفاق ،ال عن سر إهلي فيها ،يقتضيها بطريق اخلاصية .وكما أن يف األدوية أصوالً هي أركأنـها ،وزوائد هي متمماهتا ، لكل واحد منها خصوص أتثري يف أعمال أصوهلا ،كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آاثر أركان العبادات. 108يف ق :أن لإلنسان بدانً وقلباً. 109ذكرت يف القرآن عشر مرات بـهذا اللفظ. - 36 - الغزايل املنقذ من الضالل :سبب نشر العلم عرفنا ذلك وعلى الملة :فاألنبياء عليهم السالم أطباء أمراض القلوب ،وإمنا فائدة العقل وتصرفه أن ّ وشهد للنبوة ابلتصديق ولنفسه ابلعجز 110عن درك ما يدرك بعني النبوة ،وأخذ أبيدينا وسلمنا ( إليها ) تسليم العميان إىل القائدين ،وتسليم املرضى املتحريين إىل األطباء املشفقني .فإىل ههنا جمرى العقل وخمطاه وهو معزول عما بعد ذلك ،إال عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه. فهذه أمور عرفناها ابلضرورة الارية جمرى املشاهدة ،يف مدة اخللوة والعزلة. مث رأينا فتور االعتقادات يف أصل النبوة ،مث يف حقيقة النبوة ،مث يف العمل مبا شرحته النبوة ،وحتققنا شيوع ذلك بني اخللق ؛ فنظرت إىل أسباب فتور اخللق ،وضعف إميأنـهم ،فإذا هي أربعة : - 1سبب من اخلائضني يف علم الفلسفة ؛ - 2وسبب من اخلائضني يف طريق التصوف ؛ - 3وسبب من املنتسبني اىل دعوى التعليم ؛ -4وسبب من معاملة املوسومني ابلعلم فيما بني الناس. فإين تتبعت مد ًة آحاد اخللق ،أسأل من أن يقصر منهم يف متابعة الشرع ( واسأله ) عن شبهته وأحبث عن عقيدته وسره وقلت له (( :ما لك تقصر فيها فإن كنت تؤمن ابآلخرة ولست تستعد هلا وتبيعها ابلدنيا ، فهذه محاقة! فإنك ال تبيع االثنني بواحد ،فكيف تبيع ما ال نـهاية له أبايم معدودة؟ وإن كنت ال تؤمن ، فأنت كافر! فدبر نفسك يف طلب اإلميان ،وانظر ما سبب كفرك اخلفي الذي هو مذهبك ابطناً ،وهو سبب جرأتك ظاهراً ،وإن كنت ال تصرح به جتمالً ابإلميان وتشرفاً بذكر الشرع ! )). فقائل يقول (( :إن هذا أمر لو وجبت احملافظة عليه ،لكان العلماء أجدر بذلك ؛ وفالن من املشاهري بني الفضالء ال يصلي ،وفالن يشرب اخلمر ،وفالن أيكل أموال األوقاف وأموال اليتامى ،وفالن أيكل إدرار السلطان وال حيرتز عن احلرام ،وفالن أيخذ الرشوة على القضاء والشهادة ! وهلم جراً إىل أمثاله)) . وقائل اثن :يدعي ( علم ) التصوف ،ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقّى عن احلاجة إىل العبادة!. وقائل اثلث :يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل اإلابحة! وهؤالء هم الذين ضلوا عن التصوف. 110يف ق :ابلعمى. - 37 - الغزايل املنقذ من الضالل :سبب نشر العلم وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول (( :احلق مشكل ،والطريق إليه متعسر ، 111واالختالف فيه كثري ، وليس بعض املذاهب أوىل من بعض ،وأدلة العقول متعارضة ،فال ثقة برأي أهل الرأي ،والداعي إىل التعليم متحكم ال حجة له ،فكيف أدع اليقني ابلشك ؟ )). وقائل خامس يقول (( :لست أفعل هذا تقليداً ،ولكين قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة ،وإن حاصلها يرجع إىل احلكمة واملصلحة ،وأن املقصود من تعبداتـها :ضبط عوام اخللق وتقييدهم عن التقاتل والتنازع واالسرتسال يف الشهوات ،فما أان من العوام الهال حىت أدخل يف حجر التكليف ،وإمنا أان من احلكماء أتبع احلكمة وأان بصري بـها ،مستغن فيها عن التقليد ! )). هذا منتهى إميان من قرأ ( مذهب ) فلسفة اإلهليني منهم ؛ وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأيب نصر الفارايب .وهؤالء هم املتجملون ابإلسالم. ورمبا ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ،وحيضر الماعات والصلوات ،ويعظم الشريعة بلسأنه ،ولكنه مع ذلك ال يرتك شرب اخلمر ،وأنواعاً من الفسق والفجور! وإذا قيل له(( :إن كانت النبوة غري صحيحة ،فلم تصلي ؟ )) فرمبا يقول (( :لرايضة السد ،ولعادة أهل البلد ،وحفظ املال والولد! )) .ورمبا قال(( :الشريعة صحيحة ،والنبوة حق! )) فيقال (( :فلم تشرب اخلمر؟ )) فيقول (( :إمنا نـهي عن اخلمر ألنـها تورث العداوة والبغضاء ،وأان حبكميت حمرتز عن ذلك ،وإين أقصد به تشحيذ خاطري )).حىت أن ابن سينا ذكر يف وصية له كتب فيها :أنه عاهد هللا تعاىل على كذا وكذا ،وأن يعظم األوضاع الشرعية ،وال يقصر يف العبادات الدينية ،وال يشرب تلهياً بل تداوايً وتشافياً ؛ فكان منتهى حالته يف صفاء اإلميان ،والتزام العبادات ،أن استثىن شرب اخلمر لغرض التشايف. فهذا إميان من يدعي اإلميان منهم .وقد اخندع بـهم مجاعة ،وزادهم اخنداعاً ضعف اعرتاض املعرتضني عليهم ،إذ اعرتضوا مبجاهدة علم اهلندسة واملنطق ،وغري ذلك مما هو ضروري هلم ،على ما بينا علته من قبل. فلما رأيت أصناف اخللق قد ضعف إيـمأنـهم إىل هذا احلد بـهذه األسباب ،ورأيت نفسي ملبة بكشف هذه الشبهة ،حىت كان إفضاح هؤالء أيسر عندي من شربة ماء ،لكثرة خوضي يف علومهم [ وطرقهم ] -أعين [ طرق ] الصوفية والفالسفة والتعليمية واملتومسني من العلماء ، -انقدح يف نفسي أن ذلك متعني يف هذا الوقت ،حمتوم .فماذا تغنيك اخللوة والعزلة ،وقد عم الداء ،ومرض األطباء ،وأشرف اخللق على اهلالك؟ مث قلت يف نفسي (( :مىت تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة ،والزمان زمان الفرتة ، 111يف ق :والطريق متعسرة. - 38 - الغزايل املنقذ من الضالل :سبب نشر العلم والدور دور الباطل ،ولو اشتغلت بدعوة اخللق ،عن طرقهم إىل احلق ،لعاداك أهل الزمان أبمجعهم ،وأنـى تقاومهم فكيف تعايشهم ،وال يتم ذلك إال بزمان مساعد ،وسلطان متدين قاهر؟ )) فرتخصت بيين وبني هللا تعاىل ابالستمرار على العزلة تعلالً ابلعجز عن إظهار احلق ابحلجة .فقدر هللا تعاىل أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه ،ال بتحريك من خارج .فأمر أمر إلزام ابلنهوض إىل نيسابور ، لتدارك هذه الفرتة .وبلغ اإللزام حداً كان ينتهي ،لو أصررت على اخلالف ،إىل حد الوحشة .فخطر يل أن سبب الرخصة قد ضعف ،فال ينبغي أن يكون ابعثك على مالزمة العزلة الكسل واالسرتاحة ،وطلب عز النفس وصوهنا عن أذى اخللق ،ومل ترخص لنفسك عسر معاانة اخللق ،وهللا سبحأنه وتعاىل يقول: الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا ً وهم ال يُفتنون (( بسم هللا الرحمن الرحيم :الم .أح ِّسب ُ ولقد فتنا الذين من قبلهم )) اآلية (العنكبوت) 3-1 : ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه: نصرنا ؛ وال (( ولقد ُكذبت ُرس ٌل من قبلك فصبروا على ما ُكذبوا وأُوذوا ،حتى أتاهم ُ ت هللا ،ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ( األنعام) 34: مبدل لكلما ِّ ويقول عز وجل (( :بسم هللا الرحمن الرحيم :يس والقرآن الحكيم )) ...إلى قوله (( إنما ب )) ( .يس) 11-1: ُ تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغي ِّ فشاورت يف ذلك مجاعة من أرابب القلوب واملشاهدات ،فاتفقوا على اإلشارة برتك العزلة ،واخلروج من الزاوية ؛ وانضاف إىل ذلك منامات من الصاحلني كثرية متواترة ،تشهد أبن هذه احلركة مبدأ خري ورشد 112 الظن بسبب هذه الشهادات ق ّدرها هللا سبحأنه على رأس هذه املائة ؛ فاستحكم الرجاء ،وغلب حسن ّ ويسر هللا تعاىل احلركة إىل نيسابور ،للقيام بـهذا املهم وقد وعد هللا سبحأنه إبحياء دينه على رأس كل مائةّ . يف ذي القعدة ،سن تسع وتسعني وأربع مائة .وكان اخلروج من بغداد يف ذي القعدة سنة مثان ومثانني وأربع مائة .وبلغت مدة العزلة إحدى عشر سنة .وهذه حركة ق ّدرها هللا تعاىل ( ،وهي ) من عجائب تقديراته اليت مل يكن هلا انقداح يف القلب يف هذه العزلة ،كما مل يكن اخلروج من بغداد ،والنـزوع عن تلك األحوال مما خطر إمكأنه أصالً ابلبال ؛ وهللا تعاىل مقلب القلوب واألحوال و (( قلب المؤمن بين إصبعين من أصابعِّ الرحمن )) .113وأان أعلم أين ،وإن رجعت إىل نشر العلم ،فما رجعت! فإن الرجوع عود إىل ما 112أبو دواد واحلاكم عن أبو هريرة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال (( :إن هللا يبعث هلذه األمة على رأس كل مائة سنة من جيدد هلا دينها )). 113مسلم وأمحد عن عبدهللا بن عمرو بن العاص ويوجد يف الرتمذي وأبن ماجه رواايت مشابـهه عن أخرون. - 39 - الغزايل املنقذ من الضالل :سبب نشر العلم كان ،وكنت يف ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الاه ،وأدعو إليه بقويل وعملي ،وكان ذلك قصدي ونييت .وأما اآلن فأدعو إىل العلم الذي به يرتك الاه ،ويعرف بـه سقوط رتبة الاه. هذا هو اآلن نييت وقصدي وأمنييت ؛ يعلم هللا ذلك مين ؛ وأان أبغي أن أصلح نفسي وغريي ،ولست أدري أأصل مرادي أم أخرتم 114دون غرضي؟ ولكين اؤمن إميان يقني ومشاهدة أنه ال حول وال قوة إال ابهلل ( العلي العظيم ) ؛ وأين مل أحترك ،لكنه حركين ؛ وإين مل أعمل ،لكنه استعملين ؛ فأسأله أن يصلحين أوالً ، مث يصلح يب ،ويهديين ،مث يهدي يب ؛ وأن يريين احلق حقاً ،ويرزقين اتباعه ،ويريين الباطل ابطالً ،ويرزقين اجتنابه. * * * ونعود اآلن إىل ما ذكرانه من أسباب ضعف اإلميان بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم: أما الذين ادعوا احلرية مبا مسعوه من أهل التعليم ،فعالجهم ما ذكرانه يف كتاب (( القسطاس املستقيم )) وال نطول بذكره ( يف ) هذه الرسالة. وأما ما تومهه أهل اإلابحة ،فقد حصران شبههم يف سبعة أنواع وكشفناها يف كتاب (( كيمياء السعادة )). وأما من فسد إميأنه بطريق الفلسفة ،حىت أنكر أصل النبوة ،فقد ذكران حقيقة النبوة ووجودها ابلضرورة ،بدليل وجود ( علم ) خواص األدوية والنجوم وغريمها .وإمنا قدمنا هذه املقدمة ألجل ذلك .وأنـما أوردان الدليل من خواص الطب والنجوم ،ألنه من نفس علمهم .وحنن نبني لكل عامل بفن من العلوم ،كالنجوم والطب والطبيعة والسحر والطلسمات ، 115مثالً من نفس علمه ،برهان النبوة. وأما من أثبت النبوة بلسأنه ،وسوى أوضاع الشرع على احلكمة ،فهو على التحقيق كافر ابلنبوة ،وإمنا هو مؤمن حبكم له طالع خمصوص ،يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً ؛ وليس هذا من النبوة يف شيء .بل اإلميان ابلنبوة :أن يقر إبثبات طور وراء العقل ،تنفتح فيه عني يدرك بـها مدركات خاصة ،والعقل معزول عنها ،كعزل السمع عن إدراك األلوان ،والبصر عن إدراك األصوات ،ومجيع احلواس عن إدراك املعقوالت. جيوز هذا ،فقد أقمنا الربهان على إمكأنه ،بل على وجوده .وإن جوز هذا ،فقد أثبت ،أن ههنا فإن مل ّ أموراً تسمى خواص ،ال يدور تصرف العقل حواليها أصالً ،بل يكاد العقل يكذبـها ويقضي ابستحالتها. 114يقال :اخرتمة املنية ،أى أخذته. 115هذا اللفظ من أصل يوانين وهو من مصطلحات السحر :خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بـها روحانيات الكواكب العلوية ابلطبائع السفلية .راجع املعجم الوسيط. - 40 - الغزايل املنقذ من الضالل :سبب نشر العلم فإن وزن دانق 116من األفيون ،سم قاتل ألنه جيمد الدم يف العروق لفرط برودته .والذي يدعي علم الطبيعة ،يزعم أنه ما يربد من املركبات ،إمنا يربد بعنصري املاء والرتاب ؛ فهما العنصران الباردان .ومعلوم أن أرطاالً من املاء والرتاب ال يبلغ تربيدها يف الباطن إىل هذا احلد .فلو أخرب طبيعي بـهذا ومل جيربـه ،لقال (( :هذا حمال ،والدليل على استحالته أن فيه انرية وهوائية ،واهلوائية والنارية ال تزيدها برودة ؛ فنقدر الكل ماء وتراابً حاران فبأن ال يوجب ذلك أوىل )) .ويقدر هذا برهاانً! ،فال يوجب هذا اإلفراط يف التربيد .فإن انضم إليه ّ وأكثر براهني الفالسفة يف الطبيعيات واإلهليات ،مبين على هذا النس! فأنـهم تصوروا األمور على قدر ما وجدوه وعقلوه ،وما مل أيلفوه قدروا استحالته ،ولو مل تكن الرؤاي الصادقة مألوفة ،وادعى مدع ،أنه عند ركود احلواس ،يعلم الغيب ،ألنكره املتصفون مبثل هذه العقول .ولو قيل لواحد :هل جيوز أن يكون يف الدنيا شيء ،هو مبقدار حبة ،يوضع يف بلدة فيأكل تلك البلدة جبملتها مث أيكل نفسه فال يبقي [ شيئاً ] من البلدة وما فيها ،وال يبقى هو نفسه؟ )) لقال (( :هذا حملال وهو من مجلة اخلرافات! )) وهذه حالة النار ،ينكرها من مل ير النار إذا مسعها .وأكثر [ إنكار ] عجائب اآلخرة هو من هذا القبيل .فنقول للطبيعي (( :قد اضطررت إىل أن تقول :يف األفيون خاصية يف التربيد ،ليست على قياس املعقول ابلطبيعة. فلم ال جيوز أن يكون يف األوضاع الشرعية من اخلواص ،يف مداواة القلوب وتصفيتها ،ما ال يدرك ابحلكمة العقلية ،بل ال يبصر ذلك إال بعني النبوة؟ )) بل قد اعرتفوا خبواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه يف كتبهم ،وهي من اخلواص العجيبة اجملربة يف معالة احلامل اليت عسر عليها الطلق ،بـهذا الشكل: ب ط د 2 9 4 ز هـ ج 7 5 3 و ا ح 6 1 8 يكتب على خرقتني مل يصبهما ماء ،وتنظر إليهما احلامل بعينها ،وتضعهما حتت قدميها ،فيسرع الولد يف احلال إىل اخلروج .وقد أقروا إبمكان ذلك وأوردوه يف (( عجائب اخلواص )) ؛ وهو شكل فيه تسعة بيوت ، 116الدانق (بفتح النون وكسرها) :سدس الدرهم. - 41 - الغزايل املنقذ من الضالل :سبب نشر العلم يرقم فيها رقوم خمصوصة ،يكون جمموع ما يف جدول واحد مخسة عشر ،قرأته يف طول الشكل أو يف عرضه أو على التأريب.117 فيا ليت شعري! من يصدق بذلك ،مث ال يتسع عقله للتصديق ،أبن تقدير صالة الصبح بركعتني ،والظهر أبربع ،واملغرب بثالث ،هو خلواص غري معلومة بنظر احلكمة؟ وسببها اختالف هذه األوقات .وإمنا تدرك هذه اخلواص بنور النبوة .والعجب أنـا لو غريان العبارة إىل عبارة املنجمني ،لعقلوا اختالف هذه األوقات ، فنقول (( :أليس خيتلف احلكم يف الطالع ،أبن تكون الشمس يف وسط السماء ،أو يف الطالع ،أو يف الغارب ،حىت يبنوا على هذا يف تسيرياتـهم اختالف العالج ،وتفاوت األعمار واآلجال ،وال فرق بني الزوال وبني كون الشمس يف وسط السماء ،وال بني املغرب وبني كون الشمس يف الغارب ،فهل لتصديق ذلك سبب؟ )) إال أن ذلك يسمعه بعبارة منجم ،لعله جرب كذبه مائة مرة .وال يزال يعاود تصديقه ،حىت لو قال املنجم [ له ] (( :إذا كانت الشمس يف وسط السماء ،ونظر إليها الكوكب الفالين ،والطالع هو الربج الفالين ،فلبست ثوابً جديداً يف ذلك الوقت قتلت يف ذلك الثوب! )) فأنه ال يلبس الثوب يف ذلك الوقت ،ورمبا يقاسي فيه الربد الشديد ،ورمبا مسعه من منجم وقد عرف 118كذبـه مرات!. فليت شعري! من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إىل االعرتاف أبنـها خواص -معرفتها معجزة لبعض األنبياء -فيكف ينكر مثل ذلك ،فيما يسمعه من قول نيب صادق مؤيد ابملعجزات ،مل يعرف قط ابلكذب! ( ومل ال يتسع إلمكأنه! ). فإن أنكر فلسفي إمكان هذه اخلواص يف أعداد الركعات ،ورمي المار ،وعدد أركان احلج ،وسائر تعبدات الشرع ،مل جيد بينها وبني خواص األدوية والنجوم فرقاً أصالً .فإن قال (( :قد جربت شيئاً من النجوم وشيئاً من الطب ،فوجدت بعضه صادقاً ،فانقدح يف نفسي تصديقه وسقط من قليب استبعاده ونفرته ؛ وهذا مل أجربه ،فبم أعلم وجوده وحتقيقه؟ )) وإن أقررت إبمكأنه ،فأقول (( :إنك ال تقتصر على تصديق ما جربته بل مسعت أخبار اجملربني وقلدتـهم ،فامسع أقوال األنبياء فقد جربوا وشاهدوا احلق يف مجيع ما ورد بـه الشرع ،واسلك سبيلهم تدرك ابملشاهدة بعض ذلك)). على أين أقول (( :وإن مل جتربه ،فيقضي عقلك بوجوب التصديق واإلتباع قطعاً .فإان لو فرضنا رجالً بلغ وعقل ومل جيرب ( املرض ) ،فمرض ،وله والد مشفق حاذق ابلطب ،يسمع دعواه يف معرفة الطب منذ عقل ،فعجن له والده دواء ،فقال (( :هذا يصلح ملرضك ويشفيك من سقمك )) .فماذا يقتضيه عقله ، 117يف ش ( :أو جوانبه) بدالً من (أو على التأريب). 118يف ق :جرب. - 42 - الغزايل املنقذ من الضالل :سبب نشر العلم إن كان الدواء مراً كريه املذاق ،أن يتناول؟ أو يكذب ويقول (( :أان [ ال ] أعقل مناسبة هذا الدواء لتحصيل الشفاء ،ومل أجربه! )) فال شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك! وكذلك يستحمقك أهل البصائر يف توقفك! فإن قلت (( :فبم أعرف شفقة النيب صلى هللا عليه وسلم ومعرفته بـهذا الطب؟ )) فأقول (( :ومب عرفت [ شفقة أبيك ] وليس ذلك أمراً حمسوساً؟ بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله يف مصادره وموارده علماً ضرورايً ال تتمارى فيه)) . ومن نظر يف أقوال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ،وما ورد من األخبار يف اهتمامه إبرشاد اخللق ،وتلطفه جر الناس أبنواع الرفق 119واللطف ،إىل حتسني األخالق وإصالح ذات البني ،وابلملة إىل ما يصلح يف ّ به دينهم ودنياهم ،حصل له علم ضروري ،أبن شفقته صلى هللا عليه وسلم على أمته أعظم من شفقة الوالد على ولده. وإذا نظر إىل عجائب ما ظهر عليه من األفعال ،وإىل عجائب الغيب الذي أخرب عنه القرآن على لسأنه ويف األخبار ،وإىل ما ذكره يف آخر الزمان ،فظهر ذلك كما ذكره ،علم علماً ضرورايً أنه بلغ الطور الذي وراء العقل ،وانفتحت له العني اليت ينكشف منها الغيب الذي ال يدركه إال اخلواص ،واألمور اليت ال يدركها العقل. فهذا هو منهاج حتصيل العلم الضروري بتصديق النيب صلى هللا عليه وسلم .فجرب وأتمل القرآن وطالع األخبار ،تعرف ذلك ابلعيان. وهذا القدر يكفي يف تنبيه املتفلسفة ،ذكرانه لشدة احلاجة إليه يف هذا الزمان. وأما السبب الرابع -وهو ضعف اإلميان بسبب سرية العلماء -فيداوي هذا املرض بثالثة أمور: أحدها :أن تقول (( :إن العامل الذي تزعم أنه أيكل احلرام ومعرفته بتحرمي ذلك احلرام كمعرفتك بتحرمي اخلمر [ وحلم اخلنـزير ] والراب ،بل بتحرمي الغيبة والكذب والنميمة ،وأنت تعرف ذلك وتفعله ،ال لعدم إميانك أبنه معصية ،بل لشهوتك الغالبة عليك ؛ فشهوته كشهوتك ،وقد غلبته كما غلبتك ،فعلمه مبسائل وراء هذا يتميز به عنك ،ال يناسب زايدة زجر عن هذا احملظور املعني. (( وكم من مؤمن ابلطب ال يصرب عن الفاكهة وعن املاء البارد ،وإن زجره الطبيب عنه! وال يدل ذلك على أنه غري ضار ،أو على ان اإلميان ابلطب غري صحيح ،فهذا حممل هفوات العلماء)) . الثاين :أن يقال للعامي (( :ينبغي أن تعتقد أن العامل اختذ علمه ذخراً لنفسه يف اآلخرة ،ويظن أن علمه ينجيه ،ويكون شفيعاً له حىت يتساهل معه يف أعماله ،لفضيلة علمه .وإن جاز أن يكون زايدة حجة عليه 119يف ق زاد :واللني. - 43 - الغزايل املنقذ من الضالل :سبب نشر العلم ،فهو جيوز أن يكون زايدة درجة له ،وهو ممكن .فهو ،وإن ترك العمل ،يديل ابلعلم .وأما أنت أيها العامي! إذا نظرت إليه وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل ،فتهلك بسوء عملك وال شفيع لك! )) الثالث :وهو احلقيقة ،أن العامل احلقيقي ،ال يقارف معصية إال على سبيل اهلفوة ،وال يكون مصراً على يعرف أن املعصية سم مهلك ،وأن اآلخرة خري من الدنيا .ومن عرف املعاصي أصالً .إذ العلم احلقيقي ما ّ ذلك ،ال يبيع اخلري مبا هو أدىن [ منه ]. وهذا العلم ال حيصل أبنواع العلوم اليت يشتغل بـها أكثر الناس .فلذلك ال يزيدهم ذلك العلم إال جرأة على معصية هللا تعاىل .وأما العلم احلقيقي ،فيزيد صاحبه خشية وخوفاً [ ورجاءً ] ،وذلك حيول بينه وبني املعاصي إال اهلفوات اليت ال ينفك عنها البشر يف الفرتات ،وذلك ال يدل على ضعف اإلميان .فاملؤمن مفت ّتواب ،وهو بعيد عن اإلصرار واإلكباب. * * - 44 - * الغزايل املنقذ من الضالل :سبب نشر العلم هذا ما أردت أن أذكره يف ذم الفلسفة والتعليم وآفاتـهما وآفات من أنكر عليهما ،ال بطريقه. نسأل هللا العظيم أن جيعلنا ممن آثره واجتباه ،وأرشده إىل احلق وهداه ،وأهلمه ذكره حىت ال ينساه ،وعصمه عن شر نفسه حىت مل يؤثر عليه سواه ،واستخلصه لنفسه حىت ال يعبد إال إايه. وصلى هللا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبـه وسلم. * * * ص ُل اِّلى ذِّي ال ِّعزةِّ والجالل لألمام الغزالي المو ِّ وبـهذا تم كتاب ال ُمن ِّقذ ُ ِّمن الضالل و ُ رحمه هللا تعالى واسكنـه فسيح جناته * * - 45 - * مالحظه عن النص والتحقيق: بسم هللا الرحمن الرحيم ،وبـه نستعين ،والصالة والسالم على رسول هللا ؛ الحمد هلل التي تمم بـه الصالحات وبفضله تنـزل البركات .نص هذا الكتاب نقل من موقع الوراق االمارتي -ولهم منا جزيل الشكر -وقد أُدخل عليه تعديالت و اكمال بعض النقص الذي كان في النص و تصحيحات هامة مع مقارنة النص بطبعة دار الكتب العلمية لعام 1988م بتحقيق أحمد شمس الدين ؛ والطبعة الخامسة التي حققها كل من األستاذ كامل عياد و األستاذ جميل صليبا كما وردت في سلسة الروائع االنسانية مع الترجمة الفرنسية لفريد جبر.و قد ذكرنا االختالف بين النسختين في الهامش و حاولنا على قدر المستطاع اثبات ما هو صحيح في صدر الكتاب .ثم إن تحقيق األحاديث النبوية الشريفة وشرح بعض الكلمات مأخوذ عن أحمد شمس الدين بتصرف واختصار .وهللا من وراء القصد. والرموز التي اتخذت في الهواش كالتالي: ق - :يعني الوراق وهي اصل النص. ش - :نسخة أحمد شمس الدين. د - :نسخة األستاذين كامل عياد وجميل صليبا. تصحيح وتحقيق واختيار محمد اسماعيل حزين و شذا رائق عبدهللا لموقع الغزالي في منتصف عام 2002م. * * - 46 - *
© Copyright 2024 Paperzz