تحميل الملف المرفق

‫( ‪) 505 – 450‬‬
‫اعتنى بـه‬
‫زين ‪ -‬و‪ -‬شذا رائق عبدهللا‬
‫محمد أسماعيل ُح ِّ‬
‫نشر موقع الفلسفة اإلسالمية‬
‫الفهرست‬
‫توطئة‬
‫مدا ِّخ ُل السفسطة وجحد العُلوم‬
‫اف الطالبين‬
‫القو ُل في أصن ِّ‬
‫اصله‬
‫‪ِّ - 1‬عل ُم الكالم‪ :‬مق ُ‬
‫صوده وح ِّ‬
‫‪ – 2‬الفلسفة‬
‫أصناف الفال ِّسفة و ُ‬
‫شمول وصمة ال ُك ِّفر كافته ُم‬
‫لومهم‬
‫ع ِّ‬
‫أقس ِّام ُ‬
‫ب التع ِّليم وغا ِّئلته‬
‫‪ - 3‬القو ُل ِّفي مذه ِّ‬
‫‪ُ -4‬‬
‫ط ُرق الصوفِّية‬
‫واضطرار كاف ِّة الخلق إليها‬
‫حقيقة النُبُوة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫اض عنـه‬
‫سبب نشر ال ِّعلم بعد اإلعر ِّ‬
‫مالحظه عن النص والتحقيق‬
‫توطئة‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم‬
‫احلمد هلل الذي يفتتح حبمده كل رسالة ومقالة ‪ ،‬والصالة على حممد املصطفى صاحب النبوة والرسالة ‪،‬‬
‫وعلى آله وأصحابـه اهلادين من الضاللة‪.‬‬
‫أما بعد‪:‬‬
‫أبث إليك غاية العلوم وأسرارها ‪ ،‬وغائلة املذاهب وأغوارها ‪ ،‬وأحكي‬
‫فقد سألتين أيها األخ يف الدين ‪ ،‬أن ّ‬
‫لك ما قاسيته يف استخالص احلق من بني اضطراب الفرق ‪ ،‬مع تباين املسالك والطرق ‪ ،‬وما استجرأت عليه‬
‫من االرتفاع عن حضيض التقليد ‪ ،‬إىل يفاع‪ 1‬االستفسار‪ ، 2‬وما استفدته أوالً من علم الكالم ‪ ،‬وما‬
‫اجتـويـته‪ 3‬اثنياً من طرق أهل التعليم القاصرين لدرك احلق على تقليد اإلمام ‪ ،‬وما ازدريته اثلثاً من طرق‬
‫التفلسف ‪ ،‬وما ارتضيته آخراً من طريقة التصوف ‪ ،‬وما اجنلى يل يف تضاعيف تفتيشي عن أقاويل اخللق ‪،‬‬
‫من لباب احلق ‪ ،‬وما صرفين عن نشر العلم ببغداد ‪ ،‬مع كثرة الطلبة ‪ ،‬وما دعاين‪ 4‬إىل معاودته بنيسابور‪ 5‬بعد‬
‫طول املدة ‪ ،‬فابتدرت إلجابتك إىل مطلبك ‪ ،‬بعد الوقوف على صدق رغبتك ‪ ،‬وقلت مستعيناً ابهلل ومتوكالً‬
‫عليه ‪ ،‬ومستوثقاً‪ 6‬منه ‪ ،‬وملتجئاً إليه‪:‬‬
‫اعلموا ‪ -‬أحسن هللا ( تعاىل ) إرشادكم ‪ ،‬وأالن للحق قيادكم ‪ -‬أن اختالف اخللق يف األداين وامللل ‪ ،‬مث‬
‫اختالف األئمة يف املذاهب ‪ ،‬على كثرة الفرق وتباين الطرق ‪ ،‬حبر عميق غرق فيه األكثرون ‪ ،‬وما جنا منه‬
‫ب بما لديهم فرحون )) (الروم‪ )32 :‬هو الذي‬
‫إال األقلون ‪ ،‬وكل فريق يزعم أنه الناجي ‪ ،‬و (( ك ُل حز ٍ‬
‫وعدان بـه سيد املرسلني ‪ ،‬صلوات هللا عليه ‪ ،‬وهو الصادق الصدوق‪ 7‬حيث قال‪:‬‬
‫‪8‬‬
‫(( ستفترق أمتي ثالثا ً وسبعين فرقة الناجية منـها واحدة ))‬
‫فقد كان ما وعد أن يكون‪.‬‬
‫‪ 1‬اليفاع ‪ :‬املكان املرتفع‪.‬‬
‫‪ 2‬يف ق‪ :‬االستبصار‪.‬‬
‫‪ 3‬يقال‪ :‬اجتوى الطعام‪ :‬كرهه‪.‬‬
‫‪ 4‬يف ش‪ :‬ردين‪.‬‬
‫‪ 5‬يف ش‪ :‬معاوديت نيسابور‪.‬‬
‫‪ 6‬يف ق‪ :‬مستوفقاً‪.‬‬
‫‪ 7‬يف ق‪ :‬املصدوق‪.‬‬
‫‪ 8‬رواه أمحد وأبو دواد وابن ماجة والرتمذي بلفظ أخر‪.‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‬
‫ومل أزل يف عنفوان شبايب ( وريعان عمري ) ‪ ،‬منذ راهقت البلوغ قبل بلوغ العشرين إىل اآلن ‪ ،‬وقد أانف‬
‫السن على اخلمسني ‪ ،‬أقتحم لّة هذا البحر العميق ‪ ،‬وأخوض غمرته خوض السور ‪ ،‬ال خوض البان‬
‫هجم على كل مشكلة ‪ ،‬وأتقحم كل ورطة ‪ ،‬وأتفحص عن عقيدة كل‬
‫احلذور ‪ ،‬وأتوغل يف كل مظلمة ‪ ،‬وأتـ ّ‬
‫فرقة ‪ ،‬وأستكشف أسرار مذهب كل طائفة ؛ ألميز بني حمق ومبطل ‪ ،‬ومتسنن ومبتدع‪ ، 9‬ال أغادر ابطنيا‬
‫إال وأحب أن أطلع على ابطنيته‪ ، 10‬وال ظاهرّايً إال وأريد أن أعلم حاصل ظاهريته ‪ ،‬وال فلسفياً إال وأقصد‬
‫الوقوف على كنـه فلسفته ‪ ،‬وال متكلماً إال وأجتهد يف اإلطالع على غاية كالمه وجمادلته ‪ ،‬وال صوفياً إال‬
‫وأحرص على العثور على سر صوفيته‪ ، 11‬وال متعبداً إال وأترصد ما يرجع إليه حاصل عبادته ‪ ،‬وال زنديقاً‬
‫معطالً‪ 13‬إال وأجتسس‪ 14‬وراءه للتنبه ألسباب جرأته يف تعطيله وزندقته‪.‬‬
‫وقد كان التعطش إىل درك حقائق األمور دأيب وديدين من أول أمري وريعان عمري ‪ ،‬غريزة وفطرة من هللا‬
‫‪12‬‬
‫وضعتا يف جبليت ‪ ،‬ال ابختياري وحيليت ‪ ،‬حىت احنلت عين رابطة التقليد وانكسرت علي العقائد املوروثة على‬
‫قرب عهد سن‪ 15‬الصبا ؛ إذ رأيت صبيان النصارى ال يكون هلم نشوء إال على التنصر ‪ ،‬وصبيان اليهود ال‬
‫نشوء هلم إال على التهود ‪ ،‬وصبيان املسلمني ال نشوء هلم إال على اإلسالم‪ .‬ومسعت احلديث املروي عن‬
‫رسول هللا صلى هللا عليه وسلم حيث قال ‪:16‬‬
‫‪17‬‬
‫ُمجسأنه ))‬
‫(( كل مولو ٍد يولد ُ على الفطرةِّ فأبواهُ يُهودأنه وينُصرأنه وي ِّ‬
‫فتحرك ابطين إىل ( طلب ) حقيقة الفطرة األصلية ‪ ،‬وحقيقة العقائد العارضة بتقليد الوالدين واألستاذين‪، 18‬‬
‫والتمييز بني هذه التقليدات ‪ ،‬وأوائلها تلقينات ‪ ،‬ويف متييز احلق منها عن الباطل اختالفات ‪ ،‬فقلت يف‬
‫نفسي‪:‬أوالً‪ 19‬إمنا مطلويب العلم حبقائق األمور ‪ ،‬فال بد من طلب حقيقة العلم ما هي؟ فظهر يل أن العلم‬
‫‪ 9‬مبتدع ‪ :‬لغوايً خمرتع واصبح اصطالحاً على احملدث املكروه يف الدين‪.‬‬
‫‪ 10‬يف ش‪ :‬بطانته‪ :‬أي السريرة وهنا العقيدة الباطنة‪.‬‬
‫‪ 11‬يف ق‪ :‬صفوته‪.‬‬
‫‪ 12‬يف لسان العرب‪ :‬الزنديق القائل ببقاء الدهر‪.‬‬
‫‪ 13‬املعطل هو الذي ينكر صفات اخلالق‪.‬‬
‫‪ 14‬يف ش‪ :‬واحتسس‪.‬‬
‫‪ 15‬يف ش ‪ :‬شرة ‪ ،‬والشرة بكسر الشني املعجمة وفتح الراء املشددة‪ :‬احلدة والنشاط‪.‬‬
‫‪ 16‬يف ش ‪ :‬يقول‪.‬‬
‫‪ 17‬رواه أمحد والبخاري ومسلم بلفظ آخر‪.‬‬
‫‪ 18‬مجع أستاذ فارسي معرب ‪ ،‬وجيمع أيضاً على أساتذة وأساتيذ‪.‬‬
‫‪ 19‬يف ش ‪ :‬بدون أوالً‪.‬‬
‫‪-4-‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‬
‫اليقيين هو الذي ينكشف‪ 20‬فيه املعلوم انكشافاً ال يبقى معه ريب ‪ ،‬وال يقارنه‪ 21‬إمكان الغلط والوهم ‪ ،‬وال‬
‫يتسع القلب لتقدير ذلك ؛ بل األمان من اخلطأ ينبغي أان يكون مقارانً لليقني مقارنة لو حتدى إبظهار‬
‫بطألنه مثالً من يقلب احلجر ذهباً والعصا ثعباانً ‪ ،‬مل يورث ذلك شكاً وإنكاراً ؛ فإين إذا علمت أن العشرة‬
‫أكثر من الثالثة ‪ ،‬فلو قال يل قائل‪ :‬ال ‪ ،‬بل الثالثة أكثر [ من العشرة ] بدليل أين أقلب هذه العصا ثعباانً ‪،‬‬
‫وقلبها ‪ ،‬وشاهدت ذلك منه ‪ ،‬مل أشك بسببه يف معرفيت ‪ ،‬ومل حيصل يل منه إال التعجب من كيفية قدرته‬
‫عليه! فأما الشك‪ 22‬فيما علمته ‪ ،‬فال‪.‬‬
‫مث علمت أن كل ما ال أعلمه على هذا الوجه وال أتيقنه هذا النوع من اليقني ‪ ،‬فهو علم ال ثقة به وال أمان‬
‫معه ‪ ،‬وكل علم ال أمان معه ‪ ،‬فليس بعلم يقيين‪.‬‬
‫‪ 20‬يف ش ‪ :‬يكشف‪.‬‬
‫‪ 21‬يف ق‪ :‬يفارقه‪.‬‬
‫‪ 22‬يف ق زاد ‪ :‬بسببه‪.‬‬
‫‪-5-‬‬
‫‪ - 1‬مدا ِّخ ُل السفسطة وجحد العُلوم‬
‫مث فتشت عن علومي فوجدت نفسي عاطالً من علم موصوف بـهذه الصفة إال يف احلسيات والضرورايت‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬اآلن بعد حصول اليأس ‪ ،‬ال مطمع يف اقتباس املشكالت إال من الليات ‪ ،‬وهي احلسيات‬
‫والضرورايت ‪ ،‬فال بد من إحكامها أوالً ألتيقن أن ثقيت‪ 23‬ابحملسوسات ‪ ،‬وأماين من الغلط يف الضرورايت ‪،‬‬
‫من جنس أماين الذي كان من قبل يف التقليدايت ‪ ،‬ومن جنس أمان أكثر اخللق يف النظرايت ‪ ،‬أم هو أمان‬
‫حمقق ال غدر فيه وال غائلة له؟ فأقبلت جبد بليغ أأتمل احملسوسات والضرورايت ‪ ،‬وأنظر هل ميكنين أن‬
‫أشكك نفسي فيها ‪ ،‬فانتهي يب طول التشكك‪ 24‬إىل أن مل تسمح نفسي بتسليم األمان يف احملسوسات‬
‫أيضاً ‪ ،‬وأخذت تتسع للشك فيها وتقول‪ : 25‬من أين الثقة ابحملسوسات‪ ، 26‬وأقواها حاسة البصر؟ وهي‬
‫تنظر إىل الظل فرتاه واقفاً غري متحرك ‪ ،‬وحتكم بنفي احلركة ‪ ،‬مث ‪ ،‬ابلتجربة واملشاهدة ‪ ،‬بعد ساعة ‪ ،‬تعرف‬
‫أنه متحرك وأنه مل يتحرك دفعة ( واحدة ) بغتة ‪ ،‬بل على التدريج ذرة ذرة ‪ ،‬حىت مل يكن‪ 27‬له حالة وقوف‪.‬‬
‫وتنظر إىل الكوكب فرتاه صغرياً يف مقدار دينار‪ ، 28‬مث األدلة اهلندسية تدل على أنه أكرب من األرض يف‬
‫املقدار‪ .‬وهذا وأمثاله من احملسوسات حيكم فيها حاكم احلس أبحكامه ‪ ،‬ويكذبـه حاكم العقل وخيونـه تكذيباً‬
‫ال سبيل إىل مدافعته‪.‬‬
‫فقلت‪ :‬قد بطلت الثقة ابحملسوسات أيضاً ‪ ،‬فلعله ال ثقة إال ابلعقليات اليت هي من األوليات ‪ ،‬كقولنا‪:‬‬
‫العشرة أكثر من الثالثة ‪ ،‬والنفي واإلثبات ال جيتمعان يف الشيء الواحد ‪ ،‬والشيء الواحد ال يكون حاداثً‬
‫قدمياً ‪ ،‬موجوداً معدوماً ‪ ،‬واجباً حماالً‪ .‬فقالت احملسوسات‪ :‬مب أتمن أن تكون ثقتك ابلعقليات كثقتك‬
‫ابحملسوسات ‪ ،‬وقد كنت واثقاً يب ‪ ،‬فجاء حاكم العقل فكذبين ‪ ،‬ولوال حاكم العقل لكنت تستمر على‬
‫تصديقي ‪ ،‬فلعل وراء إدراك العقل حاكماً آخر ‪ ،‬إذا جتلى ‪ ،‬كذب العقل يف حكمه ‪ ،‬كما جتلى حاكم‬
‫العقل فكذب احلس يف حكمه ‪ ،‬وعدم جتلي ذلك اإلدراك ‪ ،‬ال يدل على استحالته‪ .‬فتوقفت النفس يف‬
‫‪ 23‬يف ش‪ :‬أثقيت‪.‬‬
‫‪ 24‬يف ش‪ :‬التشكيك‪.‬‬
‫‪ 25‬يف ش ‪ :‬وأخذ يتسع هذا الشك فيها ويقول‪.‬‬
‫‪ 26‬يف ق‪ :‬ابحلواس‪.‬‬
‫‪ 27‬يف ش‪ :‬تكن‪.‬‬
‫‪ 28‬يف ش ‪ :‬الدينار‪.‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‬
‫جواب ذلك قليالً ‪ ،‬وأيدت إشكاهلا ابملنام ‪ ،‬وقالت‪ :‬أما تراك تعتقد يف النوم أموراً ‪ ،‬وتتخيل أحواالً ‪،‬‬
‫وتعتقد هلا ثبااتً واستقراراً ‪ ،‬وال تشك يف تلك احلالة فيها ‪ ،‬مث تستيقظ فتعلم أنه مل يكن لميع متخيالتك‬
‫ومعتقداتك أصل وطائل ؛ فبم أتمن أن يكون مجيع ما تعتقده يف يقظتك حبس أو عقل هو حق ابإلضافة‬
‫إىل حالتك [ اليت أنت فيها ] ؛ لكن ميكن أن تطرأ عليك حالة تكون نسبتها إىل يقظتك ‪ ،‬كنسبة يقظتك‬
‫إىل منامك ‪ ،‬وتكون يقظتك نوماً ابإلضافة إليها! فإذا وردت تلك احلالة تيقنت أن مجيع ما تومهت بعقلك‬
‫خياالت ال حاصل هلا ‪ ،‬ولعل تلك احلالة ما تدعيه‪ 29‬الصوفية أنـها حالتهم ؛ إذ يزعمون أنـهم يشاهدون يف‬
‫أحواهلم اليت ( هلم ) ‪ ،‬إذا غاصوا يف أنفسهم ‪ ،‬وغابوا عن حواسهم ‪ ،‬أحواالً ال توافق هذه املعقوالت‪ .‬ولعل‬
‫تلك احلالة هي املوت ‪ ،‬إذ قال رسول هللا صلى هللا عليه وسلّم‪:‬‬
‫‪30‬‬
‫الناس نيا ٌم فإذا ماتوا انتبـهوا ))‬
‫((‬
‫ُ‬
‫فلعل احلياة الدنيا نوم ابإلضافة إىل اآلخرة‪ .‬فإذا مات ظهرت له األشياء على خالف ما يشاهده اآلن ‪،‬‬
‫ويقال له عند ذلك‪:‬‬
‫فبصرك اليوم حديدٌ )) (ق‪)22 :‬‬
‫(( فكشفنا عنك غطاءك‬
‫ُ‬
‫فلما خطرت‪ 31‬يل هذه اخلواطر وانقدحت يف النفس ‪ ،‬حاولت لذلك عالجاً فلم يتيسر ‪ ،‬إذ مل يكن دفعه‬
‫إال ابلدليل ‪ ،‬ومل ميكن نصب دليل إال من تركيب العلوم األولية ‪ ،‬فإذا مل تكن مسلمة مل ميكن تركيب الدليل‪.‬‬
‫فأعضل هذا الداء‪ ، 32‬ودام قريباً من شهرين أان فيهما على مذهب السفسطة حبكم احلال ‪ ،‬ال حبكم النطق‬
‫واملقال ‪ ،‬حىت شفى هللا تعاىل من ذلك املرض ‪ ،‬وعادت النفس إىل الصحة واالعتدال ‪ ،‬ورجعت الضرورايت‬
‫العقلية مقبولة موثوقاً بـها على أمن ويقني ؛ ومل يكن ذلك بنظم دليل وترتيب كالم ‪ ،‬بل بنور قذفه هللا تعاىل‬
‫يف الصدر وذلك النور هو مفتاح أكثر املعارف ‪ ،‬فمن ظن أن الكشف موقوف على األدلة احملررة فقد ضيق‬
‫رمحة هللا [ تعاىل ] الواسعة ؛ وملا سئل رسول هللا صلى هللا عليه وسلّم عن ( الشرح ) ومعناه يف قوله تعاىل‪:‬‬
‫(( فمن يرد هللا أن يهديه يشرح صدره‬
‫لإلسالم)) (األنعام‪)125 :‬‬
‫‪ 29‬يف د‪ :‬يدعيه و يف ش ‪ :‬ندعية ؛ والصواب ما ثبتناه يف النص‪.‬‬
‫‪ 30‬يقول يف ش ‪ :‬أنه ليس حبديث ولكن من كالم على بن أىب طالب رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 31‬يف ش ‪ :‬خطر‪.‬‬
‫‪ 32‬هذ ه احلالة هي اليت تسمى فرتة الشك وهي غري األزمة الروحانية اليت أدت ابلغزايل إىل ترك بغداد ؛ وهي األزمة األوىل وهي بطابعها غري‬
‫روحانية وإمنا هي معرفية ‪ .‬ويرى البعض أن هذا الشك مشابه ملا حصل للعامل الفرنسي رينيه ديكارت راجع يف ذلك ما كتبه أمحد مشس الدين يف‬
‫حاشية (املنقذ) من حتقيقه ص ‪ ، 29‬وما كتبه عبد الرمحن بدوي يف مقالة بعنوان ‪ ( :‬أوهام حول الغزايل ) يف كتاب أبو حامد الغزايل‪ :‬دراسات‬
‫يف فكره وعصره وأتثريه ‪ ،‬منشورات كلية اآلداب والعلوم اإلنسانية ابلرابط لعام ‪1988‬م‪.‬‬
‫‪-7-‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‬
‫قال‪ (( :‬هو نور يقذفه هللا تعالى في القلب )) فقيل‪( :‬وما عالمته ؟) قال‪ (( :‬التجافي عن دار‬
‫دار ال ُخلُود ))‪ .33‬وهو الذي قال صلى هللا عليه وسلم فيه‪:‬‬
‫ور واإلنابة إلى ِّ‬
‫الغُ ُر ِّ‬
‫‪34‬‬
‫(( إن هللا تعالى خلق الخلق في ُ‬
‫ظلم ٍة ثم رش عليهم من نُور ِّه ))‬
‫فمن ذلك النور ينبغي أن يطلب الكشف ‪ ،‬وذلك النور ينبجس من الود اإلهلي يف بعض األحايني ‪،‬‬
‫وجيب الرتصد له كما قال صلى هللا عليه وسلّم‪:‬‬
‫‪35‬‬
‫ضوا لها ))‬
‫أيام دهركم نفحاتٌ أال فتعر ُ‬
‫(( إن لربكم في ِّ‬
‫واملقصود من هذه احلكاايت أن يعمل كمال الد يف الطلب ‪ ،‬حىت ينتهي إىل طلب ما ال يطلب‪ .‬فإن‬
‫األوليات ليست مطلوبة ‪ ،‬فأنـها حاضرة‪ .‬واحلاضر إذا طلب فقد‪ 36‬واختفى‪ .‬ومن طلب ما ال يطلب ‪ ،‬فال‬
‫يتهم ابلتقصري يف طلب ما يطلب‪.‬‬
‫‪ 33‬ذكره ابن كثري يف تفسريه بطرق مرسلة ومتصلة يشد بعضها بعضاً‪.‬‬
‫‪ 34‬رواه أمحد والرتمذي واحلاكم بلفظ آخر‪.‬‬
‫‪ 35‬رواه الطرباين والسيوطي يف الفتح الكبري بلفظ أخر قريب ‪ ،‬والبيهقي وأبو هريرة بلفظ آخر ‪ ،‬وأبو نعيم عن أنس‪.‬‬
‫‪ 36‬يف ش ‪ :‬نفر‪.‬‬
‫‪-8-‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬اصناف الطالبني‬
‫اف الطالبين‬
‫القو ُل في أصن ِّ‬
‫وملا شفاين هللا من هذا املرض بفضله وسعة جوده ‪ ،‬أحنصرت أصناف الطالبني عندي يف أربع فرق‪:‬‬
‫‪ .1‬املتكلمون‪ :‬وهم يدعون أنـهم أهل الرأي والنظر‪.‬‬
‫‪ .2‬الباطنية‪ :‬وهم يزعمون أنـهم أصحاب التعليم واملخصوصون ابالقتباس من اإلمام املعصوم‪.‬‬
‫‪ .3‬الفالسفة‪ :‬وهم يزعمون أنـهم أهل املنطق والربهان‪.‬‬
‫‪ .4‬الصوفية‪ :‬وهم يدعون أنـهم خواص احلضرة وأهل املشاهدة واملكاشفة‪.‬‬
‫فقلت يف نفسي ‪ :‬احلق ال يعدو هذه األصناف األربعة ‪ ،‬فهؤالء هم السالكون سبل طلب احلق ‪ ،‬فإن شذ‬
‫احلق عنهم ‪ ،‬فال يبقى يف درك احلق مطمع ‪ ،‬إذ ال مطمع يف الرجوع إىل التقليد بعد مفارقته ؛ و( من )‬
‫شرط املقلد‪ 37‬أن ال يعلم أنه مقلد ‪ ،‬فإذا علم ذلك انكسرت زجاجة تقليده ‪ ،‬وهو شعب‪ 38‬ال يرأب‪، 39‬‬
‫وشعث‪ 40‬ال يلم ابلتلفيق والتأليف ‪ ،‬إال أن يذاب ابلنار ‪ ،‬ويستأنف له صنعة أخرى مستجدة‪.‬‬
‫فابتدرت لسلوك هذه الطرق ‪ ،‬واستقصاء ما عند هذه الفرق‪ .‬مبتدائً بعلم الكالم‪ .‬ومثنياً بطريق الفلسفة ‪،‬‬
‫ومثلثاً بتعلم الباطنية ‪ ،‬ومربعاً بطريق الصوفية‪.‬‬
‫*‬
‫*‬
‫*‬
‫‪ 37‬يف ش ‪ :‬إذ من شرط املقلد‪.‬‬
‫‪ 38‬الشعب بكسر الشني املعجمة وسكون العني املهملة انفراج بني البلني ‪ ،‬واملراد هنا شق‪.‬‬
‫‪ 39‬اليرأب ‪ :‬اليصلح‪.‬‬
‫‪ 40‬شعث ‪ :‬ما تفرق من األمور‪.‬‬
‫‪-9-‬‬
‫اصله‬
‫‪ِّ -1‬عل ُم الكالم‪ :‬مق ُ‬
‫صوده وح ِّ‬
‫مث إين ابتدأت بعلم الكالم ‪ ،‬فحصلته وعقلته ‪ ،‬وطالعت كتب احملققني منهم ‪ ،‬وصنفت فيه ما أردت أن‬
‫أصنف ‪ ،‬فصادفته علماً وافياً مبقصوده ‪ ،‬غري واف مبقصودي ؛ وإمنا املقصود منه‪ 41‬حفظ عقيدة أهل السنة‬
‫[ على أهل السنة ] وحراستها عن تشويش أهل البدعة‪ .‬فقد ألقى هللا ( تعاىل ) إىل عباده على لسان رسوله‬
‫عقيدة هي احلق ‪ ،‬على ما فيه صالح دينهم ودنياهم ‪ ،‬كما نطق مبعرفته القرآن واألخبار ‪ ،‬مث ألقى الشيطان‬
‫يف وساوس املبتدعة أموراً خمالفة للسنة ‪ ،‬فلهجوا‪ 42‬بـها وكادوا يشوشون عقيدة احلق على أهلها‪ .‬فأنشأ هللا‬
‫تعاىل طائفة املتكلمني ‪ ،‬وحرك دواعيهم لنصرة السنة بكالم مرتب ‪ ،‬يكشف عن تلبيسات أهل البدع احملدثة‬
‫‪ ،‬على خالف السنة املأثورة ؛ فمنه نشأ علم الكالم وأهله‪ .‬ولقد قام طائفة منهم مبا ندبـهم هللا ( تعاىل ) إليه‬
‫‪ ،‬فأحسنوا الذب عن السنة ‪ ،‬والنضال عن العقيدة املتلقاة ابلقبول من النبوة ‪ ،‬والتغيري يف وجه ما أحدث‬
‫من البدعة ؛ ولكنهم اعتمدوا يف ذلك على مقدمات تسلموها من خصومهم ‪ ،‬واضطرهم إىل تسليمها‪ :‬إما‬
‫التقليد ‪ ،‬أو إمجاع األمة ‪ ،‬أو جمرد القبول من القرآن واألخبار‪ .‬وكان أكثر خوضهم يف استخراج مناقضات‬
‫اخلصوم ‪ ،‬ومؤاخذهتم بلوازم مسلماهتم‪ .‬وهذا قليل النفع يف حق‪ 43‬من ال يسلم سوى الضرورايت شيئاً (‬
‫أصالً ) ‪ ،‬فلم يكن الكالم يف حقي كافياً ‪ ،‬وال لدائي الذي كنت أشكوه شافياً‪ .‬نعم ‪ ،‬ملا نشأت صنعة‬
‫الذب ( عن السنة ) ابلبحث عن‬
‫الكالم وكثر اخلوض فيه وطالت املدة ‪ ،‬تشوق املتكلمون إىل حماولة ّ‬
‫حقائق األمور ‪ ،‬وخاضوا يف البحث عن الواهر واألعراض‪ 44‬وأحكامها‪ .‬ولكن ملا مل يكن ذلك مقصود‬
‫علمهم ‪ ،‬مل يبلغ كالمهم فيه الغاية القصوى ‪ ،‬فلم حيصل منه ما ميحق‪ 45‬ابلكلية ظلمات احلرية يف اختالفات‬
‫اخللق ؛ وال أبعد أن يكون قد حصل ذلك لغريي! بل لست أشك يف حصول ذلك لطائفة ولكن حصوالً‬
‫مشوابً ابلتقليد يف بعض األمور اليت ليست من األوليات!‬
‫والغرض اآلن حكاية حايل ‪ ،‬ال اإلنكار على من استشفى به ‪ ،‬فإن أدوية الشفاء ختتلف ابختالف الداء‪.‬‬
‫وكم من دواء ينتفع به مريض ويستضر بـه آخر!‬
‫‪ 41‬يف ش ‪ :‬مقصوده‪.‬‬
‫‪ 42‬هلج ابألمر‪ :‬أولع به فثابر عليه واعتاده‪.‬‬
‫‪ 43‬يف ش ‪ :‬جنب‪.‬‬
‫‪ 44‬الوهر‪ :‬األصل ويف املصطلح املاهية‪ .‬العرض هو الذي حيتاج إىل موضع يقوم به كاللون احملتاج اىل جسم حيله‪.‬‬
‫‪ 45‬يف ش ‪ :‬يـمحو‪.‬‬
‫‪- 10 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫*‬
‫*‬
‫‪- 11 -‬‬
‫*‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫‪ - 2‬الفلسفة‬
‫‪ ‬حمصوهلا‪.‬‬
‫‪ ‬املذموم منها وما ال يذم‪.‬‬
‫‪ ‬وما يكفر به قائلة وما ال يكفر به‪.‬‬
‫‪ ‬وما يبتدع فيه وما ال يبتدع‪.‬‬
‫‪ ‬وبيان ما سرقه الفالسفة من كالم أهل احلق‪.‬‬
‫‪ ‬وبيان ما مزجوه بكالم أهل احلق لرتويج ابطلهم يف درج ذلك‪.‬‬
‫‪ ‬وكيفية عدم قبول البشر وحصول نفرة النفوس من ذلك احلق املمزوج ابلباطل‪.‬‬
‫‪ ‬وكيفية استخالص احلق اخلالص من الزيف والبهرج من مجلة كالمهم‪.‬‬
‫‪46‬‬
‫مث إين ابتدأت ‪ ،‬بعد الفراغ من علم الكالم ‪ ،‬بعلم الفلسفة وعلمت يقيناً ‪ ،‬أنه ال يقف على فساد نوع من‬
‫العلوم ‪ ،‬من ال يقف على منتهى ذلك العلم ‪ ،‬حىت يساوي أعلمهم يف أصل [ ذلك ] العلم ‪ ،‬مث يزيد عليه‬
‫وجياوز درجته ‪ ،‬فيطلع على ما مل يطلع عليه صاحب العلم من غور‪ 47‬وغائله ‪ ،‬وإذا ذاك‪ 48‬ميكن أن يكون‬
‫ما يدعيه من فساده ح ّقاً‪ .‬ومل أر أحداً من علماء اإلسالم صرف عنايته ومهته إىل ذلك‪.‬‬
‫ومل يكن يف كتب (( املتكلمني )) من كالمهم ‪ ،‬حيث اشتغلوا ابلرد عليهم ‪ ،‬إال كلمات معقدة مبددة ‪،‬‬
‫ظاهرة التناقض والفساد ‪ ،‬ال يظن االغرتار بـها بعاقل‪ 49‬عامي ‪ ،‬فضالً عمن يدعي دقائق العلوم‪ .‬فعلمت أن‬
‫رد املذهب قبل فهمه واإلطالع على كنهه‪ 50‬رمى يف عماية ‪ ،‬فشمرت عن ساق الد ‪ ،‬يف حتصيل ذلك‬
‫العلم من الكتب ‪ ،‬مبجرد املطالعة من غري استعانة أبستاذ ‪ ،‬وأقبلت على ذلك يف أوقات فراغي من التصنيف‬
‫والتدريس يف العلوم الشرعية ‪ ،‬وأان ممنو‪ 51‬ابلتدريس واإلفادة لثالمثائة نفر من الطلبة ببغداد‪.‬‬
‫‪ 46‬مجيع هذه النقط الثمانية زائدة يف ش و ق‪.‬‬
‫‪ 47‬يف ش ‪ :‬غوره‪.‬‬
‫‪ 48‬يف ش‪ :‬فإذذاك‪.‬‬
‫‪ 49‬يف ش‪ :‬بغافل‪.‬‬
‫‪ 50‬كنهه ‪ :‬قدر الشيء ونـهايته ؛ يقال ‪ :‬بلغت كنه هذا األمر أي غايته‪ .‬لسان اللسان‪.‬‬
‫‪ 51‬ممنو ‪ :‬مبتلّى به‪.‬‬
‫‪- 12 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫فأطلعين هللا سبحأنه [ وتعاىل ] مبجرد املطالعة يف هذه األوقات املختلسة ‪ ،‬على منتهى علومهم يف أقل من‬
‫سنتني‪ .‬مث مل أزل أواظب على التفكر فيه بعد فهمه قريباً من سنة ‪ ،‬أعاوده وأردده وأتفقد غوائله وأغواره ‪،‬‬
‫حىت اطلعت على ما فيه من خداع وتلبيس ‪ ،‬وحتقيق وختييل ‪ ،‬اطالعاً مل أشك فيه‪.‬‬
‫فامسع اآلن حكايتهم‪ 52‬وحكاية حاصل علومهم ؛ فإين رأيتهم أصنافاً ‪ ،‬ورأيت علومهم أقساماً ؛ وهم على‬
‫كثرة أصنافهم يلزمهم وصمة‪ 53‬الكفر واإلحلاد ‪ ،‬وإن كان بني القدماء منهم واألقدمني ‪ ،‬وبني األواخر منهم‬
‫واألوائل ‪ ،‬تفاوت عظيم يف البعد عن احلق والقرب منه‪.‬‬
‫*‬
‫*‬
‫‪ 52‬يف ش ‪ :‬حكايته‪.‬‬
‫‪ 53‬يف ش ‪ :‬مسة‪.‬‬
‫‪- 13 -‬‬
‫*‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫أصناف الفال ِّسفة و ُ‬
‫شمول وصمة ال ُك ِّفر كافته ُم‬
‫‪54‬‬
‫اعلم‪ :‬أنـهم ‪ ،‬على كثرة فرقهم واختالف مذاهبـهم ‪ ،‬ينقسمون إىل ثالثة أقسام‪ :‬الدهريون ‪ ،‬والطبيعيون ‪،‬‬
‫واإلهليون‪.‬‬
‫الصنف األول‪ :‬الدهريون‪ -:‬وهم طائفة من األقدمني جحدوا الصانع املدبر ‪ ،‬العامل القادر ‪ ،‬وزعموا أن‬
‫العامل مل يزل موجوداً كذلك بنفسه بال صانع ‪ ،‬ومل يزل احليوان من النطفة ‪ ،‬والنطفة من احليوان ‪ ،‬كذلك كان‬
‫‪ ،‬وكذلك يكون أبداً وهؤالء هم الزاندقة‪.‬‬
‫والصنف الثاين‪ :‬الطبيعيون‪ -:‬وهم قوم أكثروا حبثهم عن عامل الطبيعة ‪ ،‬وعن عجائب احليوان والنبات ‪،‬‬
‫وأكثروا اخلوض يف علم تشريح أعضاء احليواانت ‪ ،‬فرأوا فيها من عجائب صنع هللا تعاىل وبدائع حكمته ‪ ،‬مما‬
‫اضطروا معه إىل االعرتاف بفاطر‪ 55‬حكيم ‪ ،‬مطلع على غاايت األمور ومقاصدها‪ .‬وال يطالع التشريح‬
‫وعجائب منافع األعضاء مطالع ‪ ،‬إال وحيصل له هذا العلم الضروري بكمال تدبري الباين لبنية احليوان ؛ ال‬
‫سيما بنية اإلنسان‪ .‬إال أن هؤالء ‪ ،‬لكثرة حبثهم عن الطبيعة ‪ ،‬ظهر عندهم ‪ -‬العتدال املزاج ‪ -‬أتثري عظيم‬
‫يف قوام قوى احليوان بـه‪ .‬فظنوا أن القوة العاقلة من اإلنسان اتبعة ملزاجه أيضاً ‪ ،‬وأنـها تبطل ببطالن مزاجه‬
‫فتنعدم‪ .56‬مث إذا انعدمت‪ ، 57‬فال يعقل إعادة املعدوم كما زعموا‪ .‬فذهبوا إىل أن النفس متوت وال تعود ‪،‬‬
‫فجحدوا اآلخرة ‪ ،‬وأنكروا النة والنار ‪ [ ،‬واحلشر والنشر ] ‪ ،‬والقيامة واحلساب ‪ ،‬فلم يبق عندهم للطاعة‬
‫ثواب ‪ ،‬وال للمعصية عقاب ‪ ،‬فاحنل عنهم اللجام وأنـهمكوا يف الشهوات أنـهماك األنعام‪.‬‬
‫وهؤالء أيضاً زاندقة ألن أصل اإلميان هو اإلميان ابهلل واليوم اآلخر‪ .‬وهؤالء جحدوا اليوم اآلخر ‪ ،‬وإن آمنوا‬
‫ابهلل وصفاته‪.‬‬
‫‪ 54‬يف ش ‪ :‬أصناف الفالسفة واتصاف كافتهم ابلكفر‪.‬‬
‫‪ 55‬يف ش ‪ :‬بقادر‪.‬‬
‫‪ 56‬يف ش ‪ :‬فينعدم‪.‬‬
‫‪ 57‬يف ش ‪ :‬انعدم‪.‬‬
‫‪- 14 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫والصنف الثالث‪ :‬اإلهليون ‪ -:‬وهم املتأخرون منهم ‪ [ ،‬مثل ]‪ :‬سقراط‬
‫‪58‬‬
‫‪ ،‬وهو أستاذ أفالطون ‪،‬‬
‫وأفالطون‪ 59‬أستاذ أرسطاطاليس ‪ ،‬وأرسطاطاليس‪ 60‬هو الذي رتب [ هلم ] املنطق ‪ ،‬وهذب هلم العلوم ‪،‬‬
‫وحرر هلم ما مل يكن حمرراً من قبل ‪ ،‬وأنضج هلم ما كان ف ّجاً من علومهم ‪ ،‬وهم جبملتهم ردوا على الصنفني‬
‫ّ‬
‫األولني من الدهرية والطبيعية ‪ ،‬وأوردوا يف الكشف عن فضائحهم ما أغنوا بـه غريهم‪ (( .‬وكفى هللا املؤمنني‬
‫رداً مل يقصر‬
‫القتال )) بتقاتلهم‪ .‬مث رد أرسطاطاليس على أفالطون وسقراط ‪ ،‬ومن كان قبلهم من اإلهليني ‪ّ ،‬‬
‫فيه حىت تربأ عن مجيعهم ؛ إال أنه استبقى أيضاً من رذائل‪ 61‬كفرهم وبدعتهم بقااي مل يوفق للنـزوع عنها‪، 62‬‬
‫فوجب تكفريهم ‪ ،‬وتكفري شيعتهم‪ 63‬من املتفلسفة اإلسالميني ‪ ،‬كابن سينا‪ 64‬والفارايب‪ 65‬و غريهم‪ .66‬على‬
‫أنه مل يقم بنقل علم أرسطاطاليس أحد من متفلسفة اإلسالميني كقيام هذين الرجلني‪ .‬وما نقله غريمها ليس‬
‫خيلو من ختبيط وختليط يتشوش فيه قلب املطالع حىت ال يفهم‪ .‬وما ال يفهم كيف يرد أو يقبل؟ وجمموع ما‬
‫صح عندان من فلسفة أرسطاطاليس ‪ ،‬حبسب نقل هذين الرجلني ‪ ،‬ينحصر يف ثالثة أقسام‪- :‬‬
‫‪ .1‬قسم جيب التفكري به‪.‬‬
‫‪ .2‬وقسم جيب التبديع به‪.‬‬
‫‪ 58‬فليسوف يوانين (‪ 399-469‬ق‪ .‬م‪ ).‬ادعى أنه ال يعلم شيء‪ ،‬وليس له آاثر مكتوبة وكل ما عندان ما سجله تلميذه أفالطون من‬
‫حمداثته‪ .‬رفعت احملكمة اليواننية دعوة ضده بتهمة افساد الشباب وأعدمته ابلسم‪.‬‬
‫‪ 59‬فليسوف يوانين ( ‪ 347-427‬ق‪.‬م‪ ).‬تلميذ سقراط سجل حمداثت أستاذه‪ ،‬وأسس مدرسة للفلسفة مساها األكادمية‪ ،‬جرب الدور‬
‫السياسي يف سركيوز (ايطاليا) مث رجع إىل عاصمة اليوانن أثنيا عندما تغري الوضع السياسي حوله ‪ ،‬قال مربراً لذلك أنه ال يريد أن تتكرر الرمية‬
‫ضد الفلسفة مشرياً إىل حادثة إعدام سقراط‪ .‬من أهم أعماله كتاب المهورية‪.‬‬
‫‪ 60‬فليسوف مقدوين ( ‪ 347-427‬ق‪.‬م‪ ).‬تلميذ أفالطون‪ ،‬درس يف مدرسته عشرون عاماً‪ ،‬مث رجع إىل بلده ليكون مدرساً لإلسكندر‬
‫املقدوين‪ ،‬مث عاد إىل أثنيا وأسس مدرسة مساها الليسيم‪ ،‬بعد وفاة أفالطون‪ ،‬وحبث فيها مع تالميذه شىت أنواع املعرفة واستمرت بعد مماته بسنوات‬
‫عديدة‪ .‬مث اضطر مغادرة أثنيا عندما توىف االسكندر وضعف أمر املقدونيني‪ .‬تالميذه اشتهروا ( ابملشائني ) ألنه كانت عادة املعلم أن ميشي وهو‬
‫يلقي احملاضرة‪ .‬من أشهر املعلقني على أعماله ا لفليسوف ابن رشد القرطيب احلفيد املعروف بـ"املعلق" الذي ازدهر بعد الغزايل مبائة عام‪ .‬هذب‬
‫علم النطق وكتب يف االخالق والنفس وما وراء الطبيعة‪ ،‬واعماله السياسية مل تصل العرب واكتفوا مبا كتب افالطون‪.‬‬
‫‪ 61‬يف ق‪ :‬رذاذ‪.‬‬
‫‪ 62‬يف ش ‪ :‬للنـزع منها‪.‬‬
‫‪ 63‬يف ش ‪ :‬متبعيهم‪.‬‬
‫‪ 64‬هو أبو احلسني علي ابن سينا (‪ 428-370‬هـ) (فارسي األصل) الطبيب والفليسوف ‪ ،‬صاحب كتاب (القانون يف الطب) وكتاب‬
‫(الشفا) وكتاب (النجاة) يف الفلسفة‪.‬‬
‫‪ 65‬أبو نصر الفارايب (‪339-260‬هـ) الفليسوف (تركي األصل) املشهور صاحب كتاب املوسيقى الكبري وكتب يف الفلسفة‪ .‬زعم أبن سينا أنه‬
‫مل يفهم ارسطو حىت قرأ شرحه الذى ألفه الفارايب‪ .‬مل يشتهر يف عصره‪ ،‬ولكنه اشتهر بعد ابن سينا‪.‬‬
‫‪ 66‬يف ق‪ :‬أمثاهلما ‪ ،‬ويف ش غريمها‪.‬‬
‫‪- 15 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫‪ .3‬وقسم ال جيب إنكاره أصالً فلنفصله‪.67‬‬
‫*‬
‫*‬
‫‪ 67‬انقص يف ش ‪ :‬فلنفصله‪.‬‬
‫‪- 16 -‬‬
‫*‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫لومهم‬
‫أقس ِّام ُ‬
‫ع ِّ‬
‫أعلم‪ :‬أن علومهم ‪ -‬ابلنسبة إىل الغرض الذي نطلبه ‪ -‬ستة أقسام‪ :‬رايضية ‪ ،‬ومنطقية ‪ ،‬وطبيعية ‪ ،‬وإهلية ‪،‬‬
‫وسياسية ‪ ،‬وخلقية‪.‬‬
‫‪ - 1‬أما الرايضية‪ :‬فتتعلق بعلم احلساب واهلندسة وعلم هيئة العامل‪ ، 68‬وليس يتعلق شيء منها ابألمور‬
‫الدينية نفياً وإثبااتً ‪ ،‬بل هي أمور برهانية ال سبيل إىل جماحدته بعد فهمها ومعرفتها‪ .‬وقد تولدت منها آفتان‪:‬‬
‫احدامها‬
‫‪69‬‬
‫األوىل‪ :‬ان من ينظر فيها يتعجب من دقائقها ومن ظهور براهينها ‪ ،‬فيحسن بسبب ذلك‬
‫اعتقاده يف الفالسفة ‪ ،‬وحيسب أن مجيع علومهم يف الوضوح [ ويف ] واثقة الربهان كهذا العلم‪ .‬مث يكون قد‬
‫مسع من كفرهم وتعطيلهم وتـهاونـهم ابلشرع ما تناولته األلسن فيكفر ابلتقليد احملض ويقول‪ :‬لو كان الدين‬
‫‪71‬‬
‫حقاً ملا اختفى على هؤالء مع تدقيقهم يف هذا العلم! فإذا عرف ابلتسامع كفرهم وجحدهم‪ 70‬استدل‬
‫على أن احلق هو الحد واإلنكار للدين‪ .‬وكم رأيت ممن يضل‪ 72‬عن احلق بـهذا العذر‪ 73‬وال مستند له‬
‫سواه! وإذا قيل له‪ :‬احلاذق يف صناعة واحدة ليس يلزم أن يكون حاذقاً يف كل صناعة ‪ ،‬فال يلزم أن يكون‬
‫احلاذق يف الفقه والكالم حاذقاً يف الطب ‪ ،‬وال أن يكون الاهل ابلعقليات جاهالً ابلنحو ‪ ،‬بل لكل صناعة‬
‫أهل بلغوا فيها [ رتبة ] الرباعة والسبق‪ .‬وإن كان احلمق والهل ( قد ) يلزمهم يف غريها‪ .‬فكالم األوائل يف‬
‫جربه وخاض فيه‪ .‬فهذا إذا قرر على هذا‬
‫الرايضيات برهاين ‪ ،‬ويف اإلهليات ختميين ؛ ال يعرف ذلك إال من ّ‬
‫الذي أحلد ‪ 74‬ابلتقليد ‪ ،‬مل يقع منه موقع القبول ‪ ،‬بل حتمله غلبة اهلوى ‪ ،‬والشهوة الباطلة ‪ ،‬وحب التكايس‬
‫‪ ،‬على أن يصر على حتسني الظن بـهم يف العلوم كلها‪.‬‬
‫‪ 68‬يف ش‪ :‬العلم‪.‬‬
‫‪ 69‬انقص يف ش ‪ :‬احدامها‪.‬‬
‫‪ 70‬يف ق‪ :‬جورهم‪.‬‬
‫‪ 71‬يف ش ‪ :‬فيستدل‪.‬‬
‫‪ 72‬يف ش ‪ :‬ضل‪.‬‬
‫‪ 73‬يف ش‪ :‬القدر‪.‬‬
‫‪ 74‬يف ش ‪ :‬اختذ‪.‬‬
‫‪- 17 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫فهذه آفة عظيمة ألجلها جيب زجر كل من خيوض يف تلك العلوم ‪ ،‬فأهنا وإن مل تتعلق أبمر الدين ‪ ،‬ولكن ملا‬
‫كانت من مبادئ علومهم ‪ ،‬سرى‪ 75‬إليه شرهم وشؤمهم ‪ ،‬فقل من خيوض فيها إال وينخلع من الدين‬
‫وينحل عن رأسه لام التقوى‪.‬‬
‫اآلفة الثانية‪ :‬نشأت من صديق لإلسالم جاهل ‪ ،‬ظن أن الدين ينبغي أن ينصر إبنكار كل علم منسوب‬
‫إليهم‪ :‬فأنكر مجيع علومهم وادعى جهلهم فيها ‪ ،‬حىت أنكر قوهلم يف الكسوف واخلسوف ‪ ،‬وزعم أن ما‬
‫قالوه على خالف الشرع‪ .‬فلما قرع ذلك مسع من عرف ذلك ابلربهان القاطع ‪ ،‬مل يشك يف برهأنه ‪ ،‬ولكن‬
‫اعتقد أن اإلسالم مبين على الهل وإنكار الربهان القاطع ‪ ،‬فيزداد للفلسفة حبّاً ولإلسالم بغضاً‪ .‬ولقد عظم‬
‫على الدين جناية من ظن أن اإلسالم ينصر إبنكار هذه العلوم ‪ ،‬وليس يف الشرع تعرض هلذه العلوم ابلنفي‬
‫واإلثبات ‪ ،‬وال يف هذه العلوم تعرض لألمور الدينية‪ .‬وقوله صلى هللا عليه وسلّم‪:‬‬
‫ت أح ٍد وال لحياته فإذا‬
‫ت هللا تعالى ال‬
‫ينخسفان لمو ِّ‬
‫(( إن الشمس والقمر آيتان من آيا ِّ‬
‫ِّ‬
‫رأيتم ذلك‬
‫‪76‬‬
‫فافزعوا إلى ذكر هللا تعالى وإلى الصالة )) ‪.‬‬
‫وليس يف هذا ما يوجب إنكار علم احلساب املعرف مبسري الشمس والقمر واجتماعهما أو مقابلهما على‬
‫وجه خمصوص‪ .‬أما قوله ( عليه السالم )‪ (( :‬لكن هللا إذا جتلى لشيء خضع له )) فليس توجد هذه الزايدة‬
‫يف الصحاح أصالً‪ .‬فهذا حكم الرايضيات وآفتها‪.‬‬
‫‪ – 2‬وأما املنطقيات‪ :‬فال يتعلق شيء منها ابلدين نفياً وإثبااتً ‪ ،‬بل هي‪ 77‬النظر يف طرق األدلة واملقاييس‬
‫وشروط مقدمات الربهان وكيفية تركيبها ‪ ،‬وشروط احلد الصحيح وكيفية ترتيبه‪ .‬وأن العلم إما تصور وسبيل‬
‫معرفته احلد ‪ ،‬وإما تصديق وسبيل معرفته الربهان ؛ وليس يف هذا ما ينبغي أن ينكر ‪ ،‬بل هو ( من ) جنس‬
‫ما ذكره املتكلمون وأهل النظر يف األدلة ‪ ،‬وإمنا يفارقونـهم ابلعبارات واالصطالحات ‪ ،‬بزايدة االستقصاء يف‬
‫التعريفات والتشعيبات ‪ ،‬ومثال كالمهم فيها قوهلم‪ :‬إذا ثبت أن كل (( أ )) (( ب )) لزم أن بعض (( ب ))‬
‫(( أ )) أي إذا ثبت أن كل إنسان حيوان ‪ ،‬لزم أن بعض احليوان إنسان‪ .‬ويعربون عن هذا أبنه املوجبة الكلية‬
‫تنعكس موجبة جزئية‪ .‬وأي تعلق هلذا مبهمات الدين حىت جيحد وينكر؟ فإذا أنكر مل حيصل من إنكاره عند‬
‫أهل املنطق إال سوء االعتقاد يف عقل املنكر ‪ ،‬بل يف دينه الذي يزعم أنه موقوف على مثل هذا اإلنكار‪ .‬نعم‬
‫‪ ،‬هلم نوع من الظلم يف هذا العلم ‪ ،‬وهو أنـهم جيمعون للربهان شروطاً يعلم أهنا تورث اليقني ال حمالة ‪ ،‬لكنهم‬
‫‪ 75‬يف ش ‪ :‬يسرى‪.‬‬
‫‪ 76‬روي هذا احلديث أبسانيد وطرق خمتلفة‪ .‬يوجد يف البخاري وأمحد والنسائي وأبن ماجة ومالك‪.‬‬
‫‪ 77‬يف ش ‪ :‬هو‪.‬‬
‫‪- 18 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫عند االنتهاء إىل املقاصد الدينية ما أمكنهم الوفاء بتلك الشروط ‪ ،‬بل تساهلوا غاية التساهل ‪ ،‬ورمبا ينظر يف‬
‫املنطق أيضاً من يستحسنه ويراه واضحاً ‪ ،‬فيظن أن ما ينقل عنهم من الكفرايت مؤيد مبثل تلك الرباهني ‪،‬‬
‫فاستعجل ابلكفر قبل االنتهاء إىل العلوم اإلهلية‪.‬‬
‫فهذه اآلفة أيضاً متطرقة إليه‪.‬‬
‫‪ - 3‬وأما ( علم ) الطبيعيات‪ :‬فهو حبث‪ 78‬عن عامل السماوات وكواكبها وما حتتها من األجسام املفردة‪:‬‬
‫كاملاء واهلواء والرتاب والنار ‪ ،‬وعن األجسام املركبة‪ :‬كاحليوان والنبات واملعادن ‪ ،‬وعن أسباب تغريها‬
‫واستحالتها وامتزاجها‪ .‬وذلك يضاهي حبث الطب‪ 79‬عن جسم اإلنسان وأعضائه الرئيسة‪ 80‬واخلادمة ‪،‬‬
‫وأسباب استحالة مزاجه‪ .‬وكما ليس من شرط الدين إنكار علم الطب ‪ ،‬فليس من شرطه أيضاً إنكار ذلك‬
‫العلم ‪ ،‬إال يف مسائل معينة ‪ ،‬ذكرانها يف كتاب (( تـهافت الفالسفة ))‪ .‬وما عداها مما جيب املخالفة فيها ؛‬
‫فعند التأمل يتبني أهنا مندرجة حتتها ‪ ،‬وأصل مجلتها‪ :‬أن تعلم‪ 81‬أن الطبيعة مسخرة هلل تعاىل ‪ ،‬ال تعمل‬
‫بنفسها ‪ ،‬بل هي مستعملة من جهة فاطرها‪ .‬والشمس والقمر والنجوم والطبائع مسخرات أبمره ال فعل‬
‫لشيء منها بذاته عن ذاته‪.82‬‬
‫‪ – 4‬وأما اإلهليات‪ :‬ففيها أكثر أغاليطهم ‪ ،‬فما قدروا على الوفاء ابلربهان على ما شرطوه يف املنطق ‪،‬‬
‫ولذلك كثر االختالف بينهم فيها‪ .‬ولقد قرب مذهب أرسطاطاليس فيها من مذاهب اإلسالميني ‪ ،‬على ما‬
‫نقله الفارايب وابن سينا‪ .‬ولكن جمموع ما غلطوا فيه يرجع إىل عشرين أصالً ‪ ،‬جيب تكفريهم يف ثالثة منها ‪،‬‬
‫وتبديعهم يف سبعة عشر‪ .‬وإلبطال مذهبهم يف هذه املسائل العشرين ‪ ،‬صنفنا كتاب ( التهافت )‪.‬‬
‫أما املسائل الثالث ‪ ،‬فقد خالفوا فيها كافة اإلسالميني‪ 83‬وذلك يف قوهلم‪:‬‬
‫‪ - 1‬إن األجساد ال حتشر ‪ ،‬وإمنا املثاب واملعاقب هي األرواح اجملردة ‪ ( ،‬واملثوابت ) والعقوابت روحانية ال‬
‫جسمانية ؛‬
‫ولقد صدقوا يف إثبات الروحانية ‪ ،‬فأهنا اثبتة‪ 84‬أيضاً ‪ ،‬ولكن كذبوا يف إنكار السمانية ‪ ،‬وكفروا ابلشريعة‬
‫فيما نطقوا به‪.‬‬
‫‪ 78‬يف ش ‪ :‬يبحث‪.‬‬
‫‪ 79‬يف ش ‪ :‬الطبيب‪.‬‬
‫‪ 80‬يف ش ‪ :‬الرئيسية‪.‬‬
‫‪ 81‬يف ش ‪ :‬يعلم‪.‬‬
‫‪ 82‬نقص يف ش ‪ :‬عن ذاته‪.‬‬
‫‪ 83‬يف ق‪ :‬املسلمني‪.‬‬
‫‪- 19 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫‪ - 2‬ومن ذلك قوهلم‪ (( :‬إن هللا تعاىل يعلم الكليات دون الزئيات )) ؛‬
‫ت وال في‬
‫وهذا أيضاً كفر صريح ‪ ،‬بل احلق أنه‪ (( :‬ال يعزب عنـه مثقال ذر ٍة في السموا ِّ‬
‫األرض ))‪(.‬سبأ‪)3 :‬‬
‫ِّ‬
‫‪ - 3‬ومن ذلك قوهلم بقدم العامل وأزليته فلم يذهب أحد من املسلمني إىل شيء من هذه املسائل‪.‬‬
‫وأما ما وراء ذلك من نفيهم الصفات ‪ ،‬وقوهلم إنه عامل ابلذات ‪ ،‬ال بعلم زائد (على الذات) وما جيري جمراه ‪،‬‬
‫فمذهبهم فيها قريب من مذهب املعتزلة وال جيب تكفري املعتزلة مبثل ذلك‪ .‬وقد ذكران يف كتاب (( فيصل‬
‫التفرقة بني اإلسالم والزندقة )) ما يتبني به فساد رأي من يتسارع إىل التكفري يف كل ما خيالف مذهبه‪.‬‬
‫‪ - 4‬وأما السياسيات‪ :‬فجميع كالمهم فيها يرجع إىل احلكم املصلحية املتعلقة ابألمور الدنيوية ( واإلايلة )‬
‫السلطانية ‪ ،‬وإمنا أخذوها من كتب هللا املنـزلة على األنبياء ‪ ،‬ومن احلكم املأثورة عن سلف األنبياء [ عليهم‬
‫السالم ]‪.‬‬
‫‪ - 5‬وأما اخللقية‪ :‬فجميع كالمهم ( فيها ) يرجع إىل حصر صفات النفس وأخالقها ‪ ،‬وذكر أجناسها‬
‫وأنواعها وكيفية معالتها وجماهدهتا ‪ ،‬وإمنا أخذوها من كالم الصوفية ‪ ،‬وهم املتأهلون املواظبون على ذكر هللا‬
‫تعاىل ‪ ،‬وعلى خمالفة اهلوى وسلوك الطريق إىل هللا تعاىل ابإلعراض عن مالذّ الدنيا‪ .‬وقد انكشف هلم يف‬
‫جماهدهتم من أخالق النفس وعيوبـها ‪ ،‬وآفات أعماهلا ما صرحوا بـها ‪ ،‬فأخذها الفالسفة ومزجوها بكالمهم‬
‫‪ ،‬توسالً ابلتجمل بـها إىل ترويج ابطلهم‪ .‬ولقد كان يف عصرهم ‪ ،‬بل يف كل عصر ‪ ،‬مجاعة من املتأهلني ‪ ،‬ال‬
‫خيلي هللا [ سبحانه ] العامل عنهم ‪ ،‬فأنـهم أواتد األرض ‪ ،‬بربكاتـهم تنـزل الرمحة على أهل األرض كما ورد يف‬
‫اخلرب حيث قال صلى هللا عليه وسلّم‪:‬‬
‫(( بـهم تمطرون وبـهم ترزقون ومنـهم كان أصحاب الكهف ))‪.85‬‬
‫وكانوا يف سالف األزمنة ‪ ،‬على ما نطق بـه القرآن ‪ ،‬فتولد من مزجهم كالم النبوة وكالم الصوفية بكتبهم‬
‫آفتان‪ :‬آفة يف حق القابل وآفة يف حق الراد‪:‬‬
‫‪ - 1‬أما اآلفة اليت يف حق الراد فعظيمة‪ :‬إذ ظنت طائفة من الضعفاء أن ذلك الكالم إذا كان مدوانً يف‬
‫كتبهم ‪ ،‬وممزوجاً بباطلهم ‪ ،‬ينبغي أن يهجر وال يذكر بل ينكر على [ كل ] من يذكره ‪ ،‬إذ مل يسمعوه أوالً‬
‫إال منهم ‪ ،‬فسبق إىل عقوهلم الضعيفة أنه ابطل ‪ ،‬ألن قائله مبطل ؛ كالذي يسمع من النصراين قوله‪ (( :‬ال‬
‫إله إال هللا عيسى رسول هللا )) فينكره ويقول‪ (( :‬هذا كالم النصارى )) وال يتوقف ريثما يتأمل أن النصراين‬
‫‪ 84‬يف ق‪ :‬كائنة‪.‬‬
‫‪ 85‬احلديث ليس له ختريج يف ش‪.‬‬
‫‪- 20 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫كافر ابعتبار هذا القول ‪ ،‬أو ابعتبار إنكاره نبوة حممد عليه الصالة والسالم!؟ فإن مل يكن كافراً إال ابعتبار‬
‫إنكاره ‪ ،‬فال ينبغي أن خيالف يف غري ما هو به كافر مما هو حق يف نفسه ‪ ،‬وإن كان أيضاً حقاً عنده‪ .‬وهذه‬
‫عادة ضعفاء العقول ‪ ،‬يعرفون احلق ابلرجال ‪ ،‬ال الرجال ابحلق‪ .‬والعاقل يقتدي بسيد العقالء‪ 86‬علي‪، 87‬‬
‫رضي هللا عنه‪ 88‬حيث قال‪ (( :‬ال تعرف الحق بالرجال ( بل ) اعرف الحق تعرف أهله )) و (‬
‫العارف ) العاقل يعرف احلق ‪ ،‬مث ينظر يف نفس القول‪ :‬فإن كان حقاً ‪ ،‬قبله سواء كان قائله مبطالً أو‬
‫حمقاً ؛ بل رمبا حيرص على انتزاع احلق من أقاويل‪ 89‬أهل الضالل ‪ ،‬عاملاً أبن معدن الذهب الرغام‪ .‬وال أبس‬
‫على الصراف إن أدخل يده يف كيس القالب ‪ ،‬وانتزع اإلبريز اخلالص من الزيف والبهرج ‪ ،‬مهما كان واثقاً‬
‫القروي ‪ ،‬دون الصرييف ( البصري ) ؛ ومينع من ساحل البحر األخرق‬
‫ببصريته ؛ وامنا يزجر عن معاملة القالب‬
‫ُّ‬
‫املعزم البارع‪.‬‬
‫‪ ،‬دون السباح احلاذق ؛ ويصد عن مس احلية الصيب دون ّ‬
‫ولعمري! ملا غلب على أكثر اخللق ظنهم أبنفسهم احلذاقة والرباعة ‪ ،‬وكمال العقل ( ومتام اآللة ) يف متييز‬
‫احلق عن ( الباطل ‪ ،‬واهلدى عن ) الضاللة ‪ ،‬وجب حسم الباب يف زجر الكافة عن مطالعة كتب أهل‬
‫الضالل ما أمكن ‪ ،‬إذ ال يسلمون عن اآلفة الثانية اليت سنذكرها ( أصالً ) وإن سلموا عن ( هذه ) اآلفة‬
‫اليت ذكرانها‪.‬‬
‫ولقد اعرتض على بعض الكلمات املبثوثة يف تصانيفنا يف أسرار علوم الدين ‪ ،‬طائفة من الذين مل تستحكم‬
‫يف العلوم سرائرهم ‪ ،‬ومل تنفتح إىل أقصى غاايت املذاهب بصائرهم ‪ ،‬وزعمت أن تلك الكلمات من كالم‬
‫األوائل ‪ ،‬مع أن بعضها من مولدات اخلواطر ‪ -‬وال يبعد أن يقع احلافر على احلافر ‪ -‬وبعضها يوجد يف‬
‫الكتب الشرعية ‪ ،‬وأكثرها موجود معناه يف كتب الصوفية‪.‬‬
‫وهب أهنا مل توجد إال يف كتبهم ‪ ،‬فإذا كان ذلك الكالم معقوالً يف نفسه ‪ ،‬مؤيداً ابلربهان ‪ ،‬ومل يكن على‬
‫خمالفة الكتاب والسنة ‪ ،‬فلم ينبغي أن يهجر ويرتك؟ فلو فتحنا هذا الباب ‪ ،‬وتطرقنا إىل أن يهجر كل حق‬
‫سبق إليه خاطر مبطل ‪ ،‬للزمنا أن نـهجر كثرياً من احلق ‪ ،‬ولزمنا أن نـهجر مجلة آايت من آايت القرآن‬
‫وأخبار الرسول صلى هللا عليه وسلّم وحكاايت السلف وكلمات احلكماء والصوفية ‪ ،‬ألن صاحب كتاب ((‬
‫إخوان الصفا )) أوردها يف كتابـه مستشهداً بـها ومستدرجاً قلوب احلمقى بواسطتها إىل ابطله ؛ ويتداعى‬
‫‪ 86‬يف ق زاد ‪ :‬بقول أمري املؤمنني‪.‬‬
‫‪ 87‬يف ق زاد‪ :‬بن أيب طالب‪.‬‬
‫‪ 88‬اإلمام علي كرم هللا وجهه ‪ ،‬هو ابن عم الرسول صلى هللا عليه وسلم تزوج ابنته فاطمة الزهراء ووالد احلسن واحلسني و رابع اخللفاء الراشدون‬
‫وهو إمام يف الفقه واحلك مة والعدل ؛ اتفقت مجيع امللل على فضله و له مكارم وحماسن كثرية ليس هذا مقام ذكرها رضي هللا عنه‪.‬‬
‫‪ 89‬يف ق ‪ :‬تضاعيف كالم‪.‬‬
‫‪- 21 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل‪ :‬الفلسفة‬
‫ذلك إىل أن يستخرج املبطلون احلق من أيدينا إبيداعهم إايه كتبهم‪ .‬وأقل درجات العامل‪ :‬أن يتميز عن العامي‬
‫الغمر ‪ ،‬فال يعاف العسل ‪ ،‬وإن وجده يف حمجمة احلجام ‪ ،‬ويتحقق أن احملجمة ال تغري ذات العسل ‪ ،‬فإن‬
‫نفرة الطبع عنه مبنية على جهل عامي منشؤه أن احملجمة ‪ ،‬إمنا صنعت للدم املستقذر ‪ ،‬فيظن أن الدم‬
‫مستقذر لكونه يف احملجمة ‪ ،‬وال يدري أنه مستقذر لصفة يف ذاته ؛ فإذا عدمت ( هذه ) الصفة يف العسل‬
‫فكونـه يف ظرفه ال يكسبه تلك الصفة ‪ ،‬فال ينبغي أن يوجب له االستقذار ‪ ،‬وهذا وهم ابطل ‪ ،‬وهو غالب‬
‫على أكثر اخللق‪ .‬فإذا نسبت الكالم وأسندته إىل قائل حسن فيه اعتقادهم ‪ ،‬قبلوه وإن كان ابطالً ؛ وإن‬
‫أسندته إىل من ساء فيه اعتقادهم ردوه وإن كان حقاً‪ .‬فأبداً يعرفون احلق ابلرجال وال يعرفون الرجال ابحلق ‪،‬‬
‫وهو غاية الضالل! هذه آفة الرد‪.‬‬
‫‪ - 2‬واآلفة الثانية آفة القبول‪ :‬فإن من نظر يف كتبهم (( كإخوان الصفا )) وغريه ‪ ،‬فرأى ما مزجوه‬
‫بكالمهم من احلكم النبوية ‪ ،‬والكلمات الصوفية ‪ ،‬رمبا استحسنها وقبلها ‪ ،‬وحسن اعتقاده فيها ‪ ،‬فيسارع‬
‫إىل قبول ابطلهم املمزوج بـه ‪ ،‬حلسن ظن حصل فيما رآه واستحسنه ‪ ،‬وذلك نوع استدراج إىل الباطل‪.‬‬
‫وألجل هذه اآلفة جيب الزجر عن مطالعة كتبهم ملا فيها من الغدر واخلطر‪ .‬وكما جيب صون من ال حيسن‬
‫السباحة على مزالق الشطوط ‪ ،‬جيب صون اخللق عن مطالعة تلك الكتب‪ .‬وكما جيب صون الصبيان عن‬
‫املعزم أن ال ميس احلية بني يدي‬
‫مس احليات ‪ ،‬جيب صون األمساع عن خمتلط الكلمات وكما جيب على ّ‬
‫ولده الطفل ‪ ،‬إذا علم أن سيقتدي به ويظن أنه مثله ‪ ،‬بل جيب عليه أن حي ّذره [ منه ] ‪ ،‬أبن حيذر هو [ يف‬
‫املعزم احلاذق إذا أخذ‬
‫] نفسه [ وال ميسها ] بني يديه ‪ ،‬فكذلك جيب على العامل الراسخ مثله‪ .‬وكما أن ّ‬
‫احلية وميز بني الرتايق والسم ‪ ،‬واستخرج منها الرتايق وأبطل السم فليس له أن يشح ابلرتايق على احملتاج‬
‫إليه‪ .‬وكذا الصراف الناقد البصري إذا أدخل يده يف كيس القالّب ‪ ،‬وأخرج منه اإلبريز اخلالص ‪ ،‬واطّرح الزيف‬
‫والبهرج ‪ ،‬فليس له أن يشح ابليد املرضي على من حيتاج إليه ؛ فكذلك العامل‪ .‬وكما أن احملتاج إىل الرتايق ‪،‬‬
‫إذا امشأزت نفسه منه ‪ ،‬حيث علم أنه مستخرج من احلية اليت هي مركز السم [ وجب تعريفه ] ‪ ،‬والفقري‬
‫املضطر إىل املال ‪ ،‬إذا نفر عن قبول الذهب املستخرج من كيس القالّب ‪ ،‬وجب تنبيهه على أن نفرته جهل‬
‫حمض ‪ ،‬هو سبب حرمأنه الفائدة اليت هي مطلبه ‪ ،‬وحتتم تعريفه أن قرب الوار بني الزيف واليد ال جيعل‬
‫اليد زيفاً ‪ ،‬كما ال جيعل الزيف جيداً ‪ ،‬فكذلك قرب الوار بني احلق الباطل ‪ ،‬ال جيعل احلق ابطالً ‪ ،‬كما‬
‫ال جيعل الباطل حقاً‪.‬‬
‫فهذا ( مقدار ) ما أردان ذكره من آفة الفلسفة وغائلتها‪.‬‬
‫*‬
‫*‬
‫‪- 22 -‬‬
‫*‬
‫ب التع ِّليم وغائِّلته‬
‫‪ - 3‬القو ُل ِّفي مذه ِّ‬
‫مث إين ملا فرغت من علم الفلسفة وحتصيله وتفهمه وتزييف ما يزيف منه ‪ ،‬علمت أن ذلك أيضاً غري واف‬
‫بكمال الغرض ‪ ،‬وأن العقل ليس مستقالً ابإلحاطة جبميع املطالب ‪ ،‬وال كاشفاً للغطاء عن مجيع‬
‫املعضالت‪ .‬وكان قد نبغت انبغة التعليمية ‪ ،‬وشاع بين اخللق حتدثهم مبعرفة معىن األمور من جهة اإلمام‬
‫علي أمر‬
‫املعصوم القائم ابحلق ‪ّ ،‬‬
‫فعن يل أن أحبث يف مقاالتـهم ‪ ،‬ألطّلع على ما يف كنانتهم‪ .‬مث اتفق أن ورد ّ‬
‫جازم من حضرة اخلالفة ‪ ،‬بتصنيف كتاب يكشف [ عن ] حقيقة مذهبهم‪ .‬فلم يسعين مدافعته وصار ذلك‬
‫مستحثاً من خارج ‪ ،‬ضميمة للباعث من الباطن ‪ ،‬فابتدأت بطلب كتبهم ومجع مقاالتـهم‪ .‬وكذلك قد بلغين‬
‫بعض كلماتـهم املستحدثة اليت ولدتـها خواطر أهل العصر ‪ ،‬ال على املنهاج املعهود من سلفهم‪ .‬فجمعت‬
‫تلك الكلمات ‪ ( ،‬ورتبتها ) ترتيباً حمكماً مقارانً للتحقيق ‪ ،‬واستوفيت الواب عنها ‪ ،‬حىت أنكر بعض أهل‬
‫احلق ( مين ) مبالغيت يف تقرير حجتهم ‪ ،‬فقال‪ (( :‬هذا سعي هلم ‪ ،‬فأنـهم كانوا يعجزون عن نصرة مذهبهم‬
‫بـمثل هذه الشبهات لوال حتقيقك هلا ‪ ،‬وترتيبك إايها ))‪ .‬وهذا اإلنكار من وجه حق ‪ ،‬فقد أنكر أمحد بن‬
‫حنبل على احلارث احملاسيب ( رمحهما هللا ) ‪ ،‬تصنيفه يف الرد على املعتزلة ؛ فقال احلارث‪ (( :‬الرد على‬
‫البدعة فرض)) فقال أمحد‪ (( :‬نعم ‪ ،‬ولكن حكيت شبهتهم أوالً مث أجبت عنها ؛ فبم أتمن أن يطالع‬
‫الشبهة من يعلق ذلك بفهمه ‪ ،‬وال يلتفت إىل الواب ‪ ،‬أو ينظر يف الواب وال يفهم كنهه؟ ))‪.‬‬
‫وما ذكره أمحد بن حنبل حق ‪ ،‬ولكن يف شبهة ( مل تنتشر ) ومل تشتهر‪ .‬فأما إذا انتشرت ‪ ،‬فالواب عنها‬
‫واجب وال ميكن الواب [ عنها ] إال بعد احلكاية‪ .‬نعم ‪ ،‬ينبغي أن ال يتكلف هلم شبهة مل [ يتكلفوها ] ؛‬
‫ومل أتكلف أان ذلك ‪ ،‬بل كنت قد مسعت تلك الشبهة من واحد من أصحايب املختلفني إيل ‪ ،‬بعد أن كان‬
‫قد التحق بـهم ؛ وانتحل مذهبـهم ‪ ،‬وحكى أنـهم يضحكون على تصانيف املصنفني يف الرد عليهم ‪ ،‬أبنـهم مل‬
‫يفهموا بعد حجتهم‪ .‬مث ذكر تلك احلجة وحكاها عنهم ‪ ،‬فلم أرض لنفسي أن يظن يف الغفلة عن اصل‬
‫حجتهم ‪ ،‬فلذلك أوردتـها ‪ ،‬وال أن يظن يب أين ‪ -‬وإن مسعتها – مل أفهمها فلذلك قررهتا‪.‬‬
‫واملقصود ‪ ،‬أين قررت شبهتهم إىل أقصى اإلمكان ‪ ،‬مث أظهرت فسادها [ بغاية الربهان ]‪.‬‬
‫واحلاصل‪ :‬أنه ال حاصل عند هؤالء ‪ ،‬وال طائل لكالمهم‪ .‬ولوال سوء نصرة الصديق الاهل ‪ ،‬ملا انتهت تلك‬
‫البدعة ‪ -‬مع ضعفها ‪ -‬إىل هذه الدرجة ؛ ولكن شدة التعصب ‪ ،‬دعت الذابني عن احلق إىل تطويل النـزاع‬
‫معهم يف مقدمات كالمهم ‪ ،‬وإىل جماحدتـهم يف كل ما نطقوا به ‪ ،‬فجاحدوهم يف دعواهم‪ (( :‬احلاجة إىل‬
‫التعليم واملعلم‪ )) .‬ويف دعواهم أنه‪ (( :‬ال يصلح كل معلم ‪ ،‬بل ال بد من معلم معصوم‪ )) .‬وظهرت حجتهم‬
‫‪- 23 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫يف إظهار احلاجة إىل التعليم واملعلم ‪ ،‬وضعف قول املنكرين يف مقابلته ‪ ،‬فاغرت بذلك مجاعة وظنوا أن ذلك‬
‫من قوة مذهبهم وضعف مذهب املخالفني هلم ‪ ،‬ومل يفهموا أن ذلك لضعف انصر احلق وجعله بطريقه ؛ بل‬
‫الصواب االعرتاف ابحلاجة إىل املعلم ‪ ،‬وأنه ال بد وأن يكون ( املعلم ) معصوماً ‪ ،‬ولكن معلمنا املعصوم (‬
‫هو ) حممد صلى هللا عليه وسلّم فإذا قالوا‪ (( :‬هو ميت )) ‪ ،‬فنقول‪ (( :‬ومعلمكم غائب )) ‪ ،‬فإذا قالوا‪(( :‬‬
‫معلمنا قد علم الدعاة وبثهم يف البالد ‪ ،‬وهو ينتظر مراجعتهم إن اختلفوا أو أشكل عليهم مشكل ))‪.‬‬
‫فنقول‪ (( :‬ومعلمنا قد علم الدعاة وبثهم يف البالد وأكمل التعليم إذ قال هللا تعاىل‪:‬‬
‫(( اليوم أكملتُ لكم دينكم [ وأتممتُ عليكم نعمتي ] )) (املائدة‪)3 :‬‬
‫وبعد كمال التعليم ال يضر موت املعلم كما ال يضر غيبته‪.‬‬
‫فبقي قوهلم‪ (( :‬كيف حتكمون فيما مل تسمعوه؟ أابلنص ومل تسمعوه ‪ ،‬أم ابإلجتهاد والرأي وهو مظنة‬
‫اخلالف؟ )) فنقول‪ (( :‬نفعل ما فعله معاذ إذ بعثه رسول هللا عليه [ الصالة ] والسالم إىل اليمن‪ :‬أن حنكم‬
‫ابلنص ‪ ،‬عند وجود النص وابإلجتهاد عند عدمه‪ ( .90‬بل ) كما يفعله دعاهتم إذا بعدوا عن اإلمام إىل‬
‫أقاصي البالد ‪ ،‬إذ ال ميكنـه أن حيكم ابلنص فإن النصوص املتناهية ال تستوعب الوقائع الغري املتناهية ‪ ،‬وال‬
‫ميكنـه الرجوع يف كل واقعة إىل بلدة اإلمام ‪ ،‬وأن يقطع املسافة ويرجع فيكون املستفيت قد مات ‪ ،‬وفات‬
‫االنتفاع ابلرجوع‪ .‬فمن أشكلت عليه القبلة ليس له طريق إال أن يصلي ابالجتهاد ‪ ،‬إذ لو سافر إىل بلدة‬
‫اإلمام ملعرفة القبلة ‪ ،‬فيفوت وقت الصالة‪ .‬فإذن جازت الصالة إىل غري القبلة بناء على الظن‪ .‬ويقال‪ (( :‬إن‬
‫املخطيء يف االجتهاد له أجر واحد وللمصيب أجران ))‪ .91‬فكذلك يف مجيع اجملتهدات ‪ ،‬وكذلك أمر‬
‫صرف الزكاة إىل الفقري ‪ ،‬فرمبا يظنـه فقرياً ابجتهاده وهو غين ابطناً إبخفائه ماله ‪ ،‬فال يكون مؤاخذاً بـه وإن‬
‫أخطأ ‪ ،‬ألنه مل يؤاخذ إال مبوجب ظنه‪ .‬فإن قال‪ (( :‬ظن خمالفه كظنه )) فأقول‪ (( :‬هو مأمور ابتباع ظن‬
‫نفسه ‪ ،‬كاجملتهد يف القبلة يتبع ظنه وإن خالفه غريه‪ )) .‬فإن قال‪ (( :‬فاملقلد يتبع أاب حنيفة والشافعي (‬
‫رمحهما هللا ) أم غريمها‪ )) .‬فأقول‪ (( :‬فاملقلد يف القبلة عند االشتباه ‪ ،‬يف معرفة األفضل األعلم بدالئل القبلة‬
‫‪ ،‬فيتبع ذلك االجتهاد ؛ فكذلك يف املذاهب‪)) .‬‬
‫فرد اخللق إىل االجتهاد ‪ -‬ضرورة ‪ -‬األنبياء واألئمة مع العلم أبنـهم ( قد ) خيطئون ‪ ،‬بل قال رسول هللا‬
‫ّ‬
‫صلى هللا عليه وسلّم‪ (( :‬أان أحكم ابلظاهر وهللا يتوىل السرائر ))‪ .92‬أي أان أحكم بغالب الظن احلاصل من‬
‫‪ 90‬رواه أبو دواد والرتمذي وأمحد‪.‬‬
‫‪ 91‬رواه مسلم والبخاري وأبو دواد وابن ماجة والرتمذي والنسائي (اي الستة) وأمحد‪.‬‬
‫‪ 92‬قال احلافظ العراقي واحلافظ املزي ‪ :‬ال أصل له‪.‬‬
‫‪- 24 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫قول الشهود ‪ ،‬ورمبا أخطأوا فيه‪ .‬وال سبيل إىل األمن من اخلطأ لألنبياء يف مثل هذه اجملتهدات ‪ ،‬فيكف‬
‫يطمع يف ذلك؟‬
‫وهلم ها هنا سؤاالن‪ :‬أحدمها قوهلم‪ (( :‬هذا وإن صح يف اجملتهدات فال يصح يف قواعد العقائد ‪ ،‬إذ املخطئ‬
‫فيه غري معذور ‪ ،‬فكيف السبيل إليه؟ )) فأقول‪ (( :‬قواعد العقائد يشتمل عليها الكتاب والسنة ؛ وما وراء‬
‫ذلك من التفصيل ‪ ،‬واملتنازع فيه ‪ ،‬يعرف احلق فيه ابلوزن ابلقسطاس املستقيم‪ .‬وهي املوازين اليت ذكرها هللا (‬
‫تعاىل ) يف كتابه ‪ ،‬وهي مخسة ذكرتـها يف كتاب (( القسطاس املستقيم ))‪ .‬فإن قال‪ (( :‬خصومك خيالفونك‬
‫يف ذلك امليزان‪ )) .‬فأقول‪ (( :‬ال يتصور أن يفهم ذلك امليزان مث خيالف فيه [ إذ ال خيالف فيه ] أهل التعليم‬
‫‪ ،‬ألين استخرجته من القرآن وتعلمته منه ‪ ،‬وال خيالف فيه أهل املنطق ‪ ،‬ألنه موافق ملا شرطوه يف املنطق ‪،‬‬
‫وغري خمالف له ؛ وال خيالف فيه املتكلم ألنه موافق ملا يذكره يف أدلة النظرايت ‪ ،‬وبه يعرف احلق يف‬
‫الكالميات‪ )) .‬فإن قال‪ (( :‬فإن كان يف يدك مثل هذا امليزان فلم ال ترفع اخلالف بني اخللق؟ )) فأقول‪(( :‬‬
‫لو أصغوا إيل لرفعت اخلالف بينهم ؛ وذكرت طريق رفع اخلالف يف كتاب (( القسطاس املستقيم )) ‪ ،‬فتأمله‬
‫لتعلم أنه حق وأنه يرفع اخلالف قطعاً لو أصغوا وال يصغون [ إليه ] أبمجعهم! بل قد أصغى إيل طائفة ‪،‬‬
‫فرفعت اخلالف بينهم‪ .‬وإمامك يريد رفع اخلالف بينهم مع عدم إصغائهم ‪ ،‬فلم مل يرفع إىل اآلن؟ ومل مل يرفع‬
‫علي رضي هللا عنـه ‪ ،‬وهو رأس األئمة؟ أو يدعي أنه يقدر على محل كافتهم على اإلصغاء قهراً ‪ ،‬فلم مل‬
‫حيملهم إىل اآلن؟ وألي يوم أجله؟ وهل حصل بني اخللق بسبب دعوته إال زايدة خالف وزايدة خمالف؟‬
‫نعم! كان خيشى من اخلالف نوع الضرر ال ينتهي إىل سفك الدماء ‪ ،‬وختريب البالد وأيتام األوالد ‪ ،‬وقطع‬
‫الطرق ‪ ،‬واإلغارة على األموال‪ .‬وقد حدث يف العامل من بركات رفعكم اخلالف [ من اخلالف ] ما مل يكن‬
‫مبثله عهد‪ )) .‬فإن قال‪ (( :‬ادعيت أنك ترفع اخلالف بني اخللق ولكن املتحري بني املذاهب املتعارضة ‪،‬‬
‫واالختالفات املتقابلة ‪ ،‬مل يلزمه اإلصغاء إليك دون خصمك ‪ ،‬وأكثر اخلصوم خيالفونك ‪ ،‬وال فرق بينك‬
‫وبينهم‪)) .‬‬
‫وهذا هو سؤاهلم الثاين فأقول‪ (( :‬هذا أوالً ينقلب عليك ‪ ،‬فإنك إذا دعوت هذا املتحري إىل نفسك فيقول‬
‫املتحري ‪ ،‬مبا صرت أوىل من خمالفيك ‪ ،‬وأكثر أهل العلم خيالفونك؟ فليت شعري! مباذا جتيب ‪ ،‬أجتيب أبن‬
‫تقول‪ :‬إمامي منصوص عليه؟ فمن يصدقك يف دعوى النص ‪ ،‬وهو مل يسمع النص من الرسول؟ وإمنا يسمع‬
‫دعواك مع تطابق أهل العلم على اخرتاعك وتكذيبك‪ .‬مث هب أنه سلم لك النص ‪ ،‬فإن كان متحرياً يف‬
‫أصل النبوة ‪ ،‬فقال‪ :‬هب أن إمامك يديل مبعجزة عيسى عليه السالم فيقول‪ :‬الدليل على صدقي أين أحيي‬
‫أابك ‪ ،‬فأحياه ‪ ،‬فناطقين أبنه حمق ‪ ،‬فبماذا أعلم صدقه؟ ومل يعلم كافة اخللق صدق عيسى عليه السالم بـهذه‬
‫املعجزة ‪ ،‬بل عليه من األسئلة املشكلة ما ال يدفع إال بدقيق النظر العقلي ؛ والنظر العقلي ال يوثق به عندك‬
‫‪- 25 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫‪ ،‬وال يعرف داللة املعجزة على الصدق ما مل يعرف السحر والتمييز بينه وبني املعجزة ‪ ،‬وما مل يعرف أن هللا‬
‫ال يضل عباده‪ - .‬وسؤال اإلضالل وعسر [ حترير ] الواب عنه مشهور‪ -‬فبماذا تدفع مجيع ذلك؟ ومل يكن‬
‫إمامك أوىل ابملتابعة من خمالفه! )) فريجع إىل األدلة النظرية اليت ينكرها ‪ ،‬وخصمه يديل مبثل تلك األدلة‬
‫وأوضح منها‪ .‬وهذا السؤال قد انقلب عليهم انقالابً عظيما ‪ ،‬لو اجتمع أوهلم وآخرهم على أن جييبوا عنه‬
‫جواابً مل يقدروا عليه‪.‬‬
‫وإمنا نشأ الفساد من مجاعة من الضعفة انظروهم ‪ ،‬فلم يشتغلوا ابلقلب ‪ ،‬بل ابلواب‪ .‬وذلك مما يطول فيه‬
‫الكالم ‪ ،‬وما ال يسبق سريعاً إىل اإلفهام ‪ ،‬فال يصلح لإلفحام‪ .‬فإن قال قائل‪ (( :‬فهذا هو القلب ‪ ،‬فهل‬
‫عنه جواب؟ )) فأقول‪ (( :‬نعم! جوابه أن املتحري لو قال‪ :‬أان متحري ‪ ،‬ومل يعني املسألة اليت هو متحري فيها ‪،‬‬
‫يقال له‪ :‬أنت كمريض يقول‪ :‬أان مريض وال يعني مرضه ‪ ،‬ويطلب عالجه‪ .‬فيقال له‪ :‬ليس يف الوجود عالج‬
‫للمرض املطلق ‪ ،‬بل ملرض معني‪ :‬من صداع أو إسهال أو غريمها‪ .‬فكذلك املتحري ينبغي أن يعني ما هو‬
‫عرفته احلق فيها ابلوزن ابملوازين اخلمسة ‪ ،‬اليت ال يفهمها أحد إال ويعرتف أبنه‬
‫متحري فيه ؛ فإن عني املسألة ّ‬
‫امليزان احلق ‪ ،‬الذي يوثق بكل ما يوزن به ‪ ،‬فيفهم امليزان ‪ ،‬ويفهم منه أيضاً صحة الوزن ‪ ،‬كما يفهم متعلم‬
‫علم احلساب نفس احلساب ‪ ،‬وكون احملاسب املعلم عاملاً ابحلساب وصادقاً فيه ))‪ .‬وقد أوضحت ذلك يف‬
‫كتاب (( القسطاس املستقيم )) يف مقدار عشرين ورقة ؛ فليتأمل‪.‬‬
‫وليس املقصود اآلن بيان فساد مذهبهم ‪ ،‬فقد ذكرت ذلك يف كتاب (( املستظهري )) أوالً ؛ ويف كتاب ((‬
‫حجة احلق )) اثنياً ‪ ،‬وهو جواب كالم هلم عرض علي ببغداد ؛ ويف كتاب (( مفصل اخلالف )) الذي هو‬
‫اثنا عشر فصالً اثلثاً ؛ وهو جواب كالم عرض علي بـهمدان ؛ ويف كتاب (( الدرج )) املرقوم (( ابلداول‬
‫)) رابعاً ‪ ،‬وهو من ركيك كالمهم الذي عرض علي بطوس ؛ ويف كتاب (( القسطاس املستقيم )) خامساً ‪،‬‬
‫وهو كتاب مستقل بنفسه مقصوده بيان ميزان العلوم وإظهار االستغناء عن االمام [ املعصوم ] ملن أحاط به‪.‬‬
‫بل املقصود أن هؤالء ليس معهم شيء من الشفاء املنجي من ظلمات اآلراء ‪ ،‬بل هم ‪ ،‬مع عجزهم عن‬
‫إقامة الربهان على تعيني اإلمام ‪ ،‬طال ما جاريناهم‪ 93‬فصدقناهم يف احلاجة إىل التعليم وإىل املعلم املعصوم‬
‫وأنه الذي عينوه ‪ ،‬مث سألناهم عن العلم الذي تعلموه من هذا املعصوم وعرضنا عليهم إشكاالت فلم‬
‫يفهموها ‪ ،‬فضالً عن القيام حبلّها! فلما عجزوا أحالوا [ على ] اإلمام الغائب ‪ ،‬وقالوا‪ ( (( :‬أنه ) ال بد من‬
‫‪ 93‬يف ق ‪ :‬جربناهم‪.‬‬
‫‪- 26 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬مذهب التعليم‬
‫السفر إليه‪ )) .‬والعجب أنـهم ضيعوا عمرهم يف طلب املعلم ويف التبجح ابلظفر به ‪ ،‬ومل يتعلموا منه شيئاً‬
‫كاملتضمخ‪ 94‬ابلنجاسة ‪ ،‬يتعب يف طلب املاء حىت إذا وجده مل يستعمله ‪ ،‬وبقي متضمخاً ابخلبائث‪.‬‬
‫أصالً ‪،‬‬
‫ّ‬
‫ومنهم من ادعى شيئاً من علمهم ‪ ،‬فكان حاصل ما ذكره شيئاً من ركيك فلسفة فيثاغورس‪ :‬وهو رجل من‬
‫قدماء األوائل ‪ ،‬ومذهبـه أرك مذاهب الفلسفة ‪ ،‬وقد رد عليه أرسطاطاليس ‪ ،‬بل اسرتك كالمه واسرتذله ‪،‬‬
‫وهو احملكي يف كتاب (( إخوان الصفا )) ‪ ،‬وهو على التحقيق حشو الفلسفة‪.‬‬
‫فالعجب ممن يتعب طول العمر يف حتصيل العلم مث يقنع مبثل ذلك العلم الركيك املستغث ‪ ،‬ويظن أبنه ظفر‬
‫أبقصى مقاصد العلوم! فهؤالء أيضاً جربناهم وسربان ظاهرهم وابطنهم ؛ فرجع حاصلهم إىل استدراج العوام ‪،‬‬
‫وضعفاء العقول ببيان احلاجة إىل املعلم ‪ ،‬وجمادلتهم يف إنكارهم احلاجة إىل التعليم بكالم قوي مفحم ‪ ،‬حىت‬
‫إذا ساعدهم على احلاجة إىل املعلم مساعد ‪ ،‬وقال‪ (( :‬هات علمه وأفدان من تعليمه! )) وقف وقال‪(( :‬‬
‫اآلن إذا سلمت يل هذا فاطلبه ‪ ،‬فإمنا غرضي هذا القدر فقط‪ )) .‬إذ علم أنه لو زاد على ذلك الفتضح‬
‫ولعجز عن حل أدىن اإلشكاالت ‪ ،‬بل عجز عن فهمه ‪ ،‬فضالً عن جوابـه‪.‬‬
‫فهذه حقيقة حاهلم فأخربهم تـقلهم‪ 95‬فلما خربانهم‪ 96‬نفضنا اليد عنهم ( أيضاً )‪.‬‬
‫*‬
‫*‬
‫‪ 94‬التضمخ‪ :‬التلطخ ‪ ،‬يقال يف الطيب‪.‬‬
‫‪ 95‬اخربهم‪ :‬امتحنهم ؛ وتقلهم‪ :‬تبغضهم‪.‬‬
‫‪ 96‬يف ق ‪ :‬جربناهم‪.‬‬
‫‪- 27 -‬‬
‫*‬
‫‪ُ -4‬‬
‫ط ُرق الصوفِّية‬
‫مث إين ‪ ،‬ملا فرغت من هذه العلوم ‪ ،‬أقبلت بـهميت على طريق الصوفية وعلمت أن طريقتهم إمنا تتم بعلم‬
‫وعمل ؛ وكان حاصل علومهم قطع عقبات النفس‪ .‬والتنـزه عن أخالقها املذمومة وصفاهتا اخلبيثة ‪ ،‬حىت‬
‫يتوصل ( بـها ) إىل ختلية القلب عن غري هللا ( تعاىل ) وحتليته بذكر هللا‪.‬‬
‫علي من العمل‪ .‬فابتدأت بتحصيل علمهم من مطالعة كتبهم مثل‪ (( :‬قوت القلوب ))‬
‫وكان العلم أيسر ّ‬
‫أليب طالب املكي ( رمحه هللا ) وكتب (( احلارث احملاسيب )) ‪ ،‬واملتفرقات املأثورة عن ((النيد)) و ((‬
‫الشبلي )) و (( أيب يزيد البسطامي )) [ قدس هللا أرواحهم ] ‪ ،‬وغريهم من املشايخ ؛ حىت اطلعت على كنه‬
‫مقاصدهم العلمية ‪ ،‬وحصلت ما ميكن أن حيصل من طريقهم ابلتعلم والسماع‪ .‬فظهر يل أن أخص خواصهم‬
‫‪ ،‬ما ال ميكن الوصول إليه ابلتعلم بل ابلذوق واحلال وتبدل الصفات‪ .‬وكم من الفرق بني أن تعلم حد‬
‫الصحة وحد الشبع وأسبابـهما وشروطهما ‪ ،‬وبني أن تكون صحيحاً وشبعان؟ وبني أن تعرف حد السكر ‪،‬‬
‫وأنه عبارة عن حالة حتصل من استيالء أخبرة تتصاعد من املعدة على معادن الفكر ‪ ،‬وبني أن تكون سكران!‬
‫بل السكران ال يعرف ح ّد السكر وعلمه وهو سكران وما معه من علمه شيء! والصاحي يعرف ح ّد السكر‬
‫واركأنه وما معه من السكر شيء‪ .‬والطبيب يف حالة املرض يعرف ح ّد الصحة وأسبابـها وأدويتها ‪ ،‬وهو فاقد‬
‫الصحة‪ .‬فكذلك فرق بني أن تعرف حقيقة الزهد وشروطه وأسبابه ‪ ،‬وبني أن تكون حالك الزهد وعزوف‬
‫النفس عن الدنيا!‬
‫فعلمت يقيناً أنـهم أرابب األحوال ‪ ،‬ال أصحاب األقوال‪ .‬وأن ما ميكن حتصيله بطريق العلم فقد حصلته ‪،‬‬
‫ومل يبق إال ما ال سبيل إليه ابلسماع والتعلم ‪ ،‬بل ابلذوق والسلوك‪ .‬وكان ( قد ) حصل معي ‪ -‬من العلوم‬
‫اليت مارستها واملسالك اليت سلكتها ‪ ،‬يف التفتيش عن صنفي العلوم الشرعية والعقلية‪ -‬إميان يقيين ابهلل تعاىل‬
‫‪ ،‬وابلنبـ ّوة وابليوم اآلخر‪.‬‬
‫فهذه األصول الثالثة من اإلميان كانت قد رسخت يف نفسي ‪ ،‬ال بدليل معني حمرر‪ 97‬بل أبسباب وقرائن‬
‫وجتارب ال تدخل حتت احلصر تفاصيلها‪.‬‬
‫‪ 97‬يف ق‪ :‬جمرد‪.‬‬
‫‪- 28 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬طرق الصوفية‬
‫وكان قد ظهر عندي أنه ال مطمع ( يل ) يف سعادة اآلخرة إال ابلتقوى ‪ ،‬وكف النفس عن اهلوى ‪ ،‬وأن رأس‬
‫ذلك كله ‪ ،‬قطع عالقة القلب عن الدنيا ابلتجايف عن دار الغرور ‪ ،‬واإلانبة إىل دار اخللود ‪ ،‬واإلقبال بكنه‬
‫اهلمة على هللا تعاىل‪ .‬وأن ذلك ال يتم إال ابإلعراض عن الاه واملال ‪ ،‬واهلرب من الشواغل والعالئق‪.‬‬
‫مث الحظت أحوايل ؛ فإذا أان منغمس يف العالئق ‪ ،‬وقد أحدقت يب من الوانب ؛ والحظت أعمايل –‬
‫وأحسنها التدريس والتعليم ‪ -‬فإذا أان فيها مقبل على علوم غري مهمة وال انفعة يف طريق اآلخرة‪.‬‬
‫مث تفكرت يف نييت يف التدريس فإذا هي غري خالصة لوجه هللا تعاىل ‪ ،‬بل ابعثها وحمركها طلب الاه وانتشار‬
‫الصيت ؛ فتيقنت أين على شفا جرف هار ‪ ،‬وأين قد أشفيت على النار ‪ ،‬إن مل أشتغل بتاليف األحوال‪.‬‬
‫فلم أزل أتفكر فيه مدة ‪ ،‬وأان بعد على مقام االختيار ‪ ،‬أصمم العزم على اخلروج من بغداد ومفارقة تلك‬
‫األحوال يوماً ‪ ،‬وأحل العزم يوماً ‪ ،‬وأقدم فيه رجالً وأؤخر عنه أخرى‪ .‬ال تصدق يل رغبة يف طلب اآلخرة‬
‫بكرة ‪ ،‬إال وحيمل عليها جند الشهوة محلة فيفرتها عشية‪ .‬فصارت شهوات الدنيا جتاذبين بسالسلها إىل‬
‫املقام ‪ ،‬ومنادي اإلميان ينادي‪ :‬الرحيل! الرحيل! فلم يبق من العمر إال قليل ‪ ،‬وبني يديك السفر الطويل ‪،‬‬
‫ومجيع ما أنت فيه من العلم والعمل رايء وختييل! فإن مل تستعد اآلن لآلخرة فمىت تستعد؟ وإن مل تقطع اآلن‬
‫[ هذه العالئق ] فمىت تقطع؟ فعند ذلك تنبعث الداعية ‪ ،‬وينجزم العزم على اهلرب والفرار‪.‬‬
‫مث يعود الشيطان ويقول‪ (( :‬هذه حال عارضة ‪ ،‬إايك أن تطاوعها ‪ ،‬فأنـها سريعة الزوال ؛ فإن أذعنت هلا‬
‫وتركت هذا الاه العريض ‪ ،‬والشأن املنظوم اخلايل عن التكدير والتنغيص ‪ ،‬واألمر املسلم الصايف عن منازعة‬
‫اخلصوم ‪ ،‬رمبا التفتت إليه نفسك ‪ ،‬وال يتيسر لك املعاودة‪)) .‬‬
‫فلم أزل أتردد بني جتاذب شهوات الدنيا ‪ ،‬ودواعي اآلخرة ‪ ،‬قريباً من ستة أشهر أوهلا رجب سنة مثان‬
‫ومثانني وأربع مائة‪ .‬ويف هذا الشهر‪ 99‬جاوز األمر حد االختيار إىل االضطرار ‪ ،‬إذ أقفل هللا على لساين حىت‬
‫اعتقل عن التدريس ‪ ،‬فكنت أجاهد نفسي أن أدرس يوماً واحداً تطييباً لقلوب املختلفة [ إيل ] ‪ ،‬فكان ال‬
‫ينطق لساين بكلمة [ واحدة ] وال أستطيعها البتة ‪ ،‬حىت أورثت هذه العقلة يف اللسان حزانً يف القلب ‪،‬‬
‫‪98‬‬
‫بطلت معه قوة اهلضم ومراءة الطعام والشراب‪ :‬فكان ال ينساغ يل ثريد ‪ ،‬وال تنهضم ( يل ) لقمة ؛ وتعدى‬
‫‪ 98‬يف بعض النسخ (( سنة ست ))‪.‬‬
‫‪ 99‬هذا هو قمة األزمة الروحية عندة وسببها هو اخلوف من اهلالك اآلخروي كما قال عبدالغافر الفارسي‪ (( :‬فتح عليه ابب من أبواب اخلوف‬
‫))‪ .‬ولعل من االسباب اليت أدت إىل هذه األزمة هو دراسة كتب الصوفيني وسريتـهم‪ .‬ويف هذه الفرتة الزمنية يذكر أبن كثري أن عاملاً دخل بغداد‬
‫كثري من العباد ورجعوا إىل هللا وكثري منهم من زهد يف الدنيا وتنسك‪ .‬انظر فيما كتبـه د‪ .‬مصطفى حممود أبو‬
‫ودرس يف الناظمية وعلى يديه اتب ً‬
‫صوى عن هذه األزمة وما كتبتة أان يف هذا املوضوع ‪ ،‬والدير ابلذكر أن هذه األزمة هي غري (فرتة الشك) اليت عاىن منها وذكرها يف فصل‬
‫مداخل السفسطة وجحد العلوم ‪.‬‬
‫‪- 29 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬طرق الصوفية‬
‫إىل ضعف القوى ‪ ،‬حىت قطع األطباء طمعهم من العالج وقالوا‪ (( :‬هذا أمر نـزل ابلقلب ‪ ،‬ومنه سرى إىل‬
‫املزاج ‪ ،‬فال سبيل إليه ابلعالج ‪ ،‬إال أبن يرتوح السر عن اهلم امللم ))‪.‬‬
‫مث ملا أحسست بعجزي ‪ ،‬وسقط ابلكلية اختياري ‪ ،‬التجأت إىل هللا تعاىل التجاء املضطر الذي ال حيلة له‬
‫‪ ،‬فأجابين الذي (( جييب املضطر إذا دعاه )) ‪ ،‬وسهل على قليب اإلعراض عن الاه واملال ( واألهل والولد‬
‫واألصحاب ) ‪ ،‬وأظهرت عزم اخلروج إىل مكة وأان أدبّر يف نفسي سفر الشام حذراً أن يطلع اخلليفة ومجلة‬
‫األصحاب على عزمي على املقام يف الشام ؛ فتلطفت بلطائف احليل يف اخلروج من بغداد على عزم أن ال‬
‫أعاودها أبداً‪ .‬واستهدفت ألئمة أهل العراق كافة ‪ ،‬إذ مل يكن فيهم من جيوز أن يكون لإلعراض عما كنت‬
‫ديين ‪ ،‬إذ ظنوا أن ذلك هو املنصب األعلى يف الدين ‪ ،‬وكان ذلك مبلغهم من العلم‪.‬‬
‫فيه سبب ّ‬
‫مث ارتبك الناس يف االستنباطات ‪ ،‬وظن من بعد عن العراق ‪ ،‬أن ذلك كان الستشعار من جهة الوالة ؛ (‬
‫وأما من قرب من الوالة ) ‪ :‬كان يشاهد إحلاحهم يف التعلق يب واالنكباب علي ‪ ،‬وإعراضي عنهم ‪ ،‬وعن‬
‫االلتفات إىل قوهلم ‪ ،‬فيقولون‪ (( :‬هذا أمر مساوي ‪ ،‬وليس له سبب إال عني أصابت أهل اإلسالم وزمرة أهل‬
‫العلم ))‪.‬‬
‫ففارقت بغداد ‪ ،‬وفرقت ما كان معي من املال ‪ ،‬ومل أدخر إال قدر الكفاف ‪ ،‬وقوت األطفال ‪ ،‬ترخصاً أبن‬
‫مال العراق مرصد للمصاحل ‪ ،‬ولكونه وقفاً على املسلمني‪ .‬فلم أر يف العامل ماالً أيخذه العامل لعياله أصلح‬
‫منه‪.‬‬
‫مث دخلت الشام ‪ ،‬وأقمت به قريباً من سنتني ال شغل يل إال العزلة واخللوة ؛ والرايضة واجملاهدة ‪ ،‬اشتغاالً‬
‫بتزكية النفس ‪ ،‬وتـهذيب األخالق ‪ ،‬وتصفية القلب لذكر هللا ( تعاىل ) ‪ ،‬كما كنت حصلته من كتب‬
‫الصوفية‪ .‬فكنت أعتكف مدة يف مسجد دمشق ‪ ،‬أصعد منارة املسجد طول النهار ‪ ،‬وأغلق اببـها على‬
‫نفسي‪.‬‬
‫مث رحلت منها إىل بيت املقدس ‪ ،‬أدخل كل يوم الصخرة ‪ ،‬وأغلق اببـها على نفسي‪.‬‬
‫‪100‬‬
‫مث حتركت يف داعية فريضة احلج ‪ ،‬واالستمداد من بركات مكة واملدينة‪ .‬وزايرة رسول هللا صلى هللا عليه وسلم‬
‫بعد الفراغ من زايرة اخلليل صلوات هللا وسالمه عليه ؛ فسرت إىل احلجاز‪.‬‬
‫مث جذبتين اهلمم ‪ ،‬ودعوات األطفال إىل الوطن ‪ ،‬فعاودته بعد أن كنت أبعد اخللق عن الرجوع إليه‪ .‬فآثرت‬
‫العزلة [ به ] أيضاً حرصاً على اخللوة ‪ ،‬وتصفية القلب للذكر‪.‬‬
‫‪ 100‬يف ق‪ :‬علم‪.‬‬
‫‪- 30 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬طرق الصوفية‬
‫وكانت حوادث الزمان ‪ ،‬ومهمات العيال ‪ ،‬وضرورات املعاش‪ ، 101‬تغري يف وجه املراد ‪ ،‬وتشوش صفوة‬
‫اخللوة‪ .‬وكان ال يصفو [ يل ] احلال إال يف أقوات متفرقة‪ .‬لكين مع ذلك ال أقطع طمعي منها ‪ ،‬فتدفعين‬
‫عنها العوائق ‪ ،‬وأعود إليها‪.‬‬
‫ودمت على ذلك مقدار عشر سنني ؛ وانكشفت يل يف أثناء هذه اخللوات أمور ال ميكن إحصاؤها‬
‫واستقصاؤها ‪ ،‬والقدر الذي أذكره لينتفع به‪ :‬إين علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق هللا ( تعاىل )‬
‫خاصة ‪ ،‬وأن سريهتم أحسن السري ‪ ،‬وطريقهم أصوب الطرق ‪ ،‬وأخالقهم أزكى األخالق‪ .‬بل لو مجع عقل‬
‫العقالء ‪ ،‬وحكمة احلكماء ‪ ،‬وعلم الواقفني على أسرار الشرع من العلماء ‪ ،‬ليغريوا شيئاً من سريهم وأخالقهم‬
‫‪ ،‬ويبدلوه مبا هو خري منه ‪ ،‬مل جيدوا إليه سبيالً‪ .‬فإن مجيع حركاتـهم وسكناتـهم ‪ ،‬يف ظاهرهم وابطنهم ‪،‬‬
‫مقتبسة من ( نور ) مشكاة النبوة ؛ وليس وراء نور النبوة على وجه األرض نور يستضاء به‪.‬‬
‫وابلملة ‪ ،‬فماذا يقول القائلون يف طريقة ‪ ،‬طهارتـها ‪ -‬وهي أول شروطها ‪ -‬تطهري القلب ابلكلية عما‬
‫سوى هللا ( تعاىل ) ‪ ،‬ومفتاحها الاري منها جمرى التحرمي من الصالة ‪ ،‬استغراق القلب ابلكلية بذكر هللا ‪،‬‬
‫وآخرها الفناء ابلكلية يف هللا؟ وهذا آخرها ابإلضافة إىل ما يكاد يدخل حتت االختيار والكسب من أوائلها‪.‬‬
‫وهي على التحقيق أول الطريقة ‪ ،‬وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه‪.‬‬
‫ومن أول الطريقة تبتدئ املكاشفات ( واملشاهدات ) ‪ ،‬حىت أنـهم يف يقظتهم يشاهدون املالئكة ‪ ،‬وأرواح‬
‫األنبياء ويسمعون منهم أصوااتً ويقتبسون منهم فوائد‪ .‬مث يرتقى احلال من مشاهدة الصور واألمثال ‪ ،‬إىل‬
‫درجات يضيق عنها نطاق النطق ‪ ،‬فال حياول معرب أن يعرب عنها إال اشتمل لفظه على خطأ صريح ال ميكنه‬
‫االحرتاز عنه‪.‬‬
‫وعلى الملة‪ .‬ينتهي األمر إىل قرب يكاد يتخيل منه طائفة احللول ‪ ،‬وطائفة االحتاد ‪ ،‬وطائفة الوصول ‪ ،‬وكل‬
‫ذلك خطأ‪ .‬وقد بينا وجه اخلطأ فيه يف كتاب (( املقصد األسىن )) ؛ بل الذي البسته تلك احلالة ال ينبغي‬
‫أن يزيد على أن يقول ‪:‬‬
‫فظن خرياً وال تسأل عن اخلرب!‬
‫وكان ما كان مما لست أذكره‬
‫‪102‬‬
‫‪ 101‬يف ق‪ :‬املعيشة‪.‬‬
‫‪ 102‬هذا البيت البن املعتز‪.‬‬
‫‪- 31 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬طرق الصوفية‬
‫وابلملة ‪ ،‬فمن مل يرزق منه شيئاً ابلذوق ‪ ،‬فليس يدرك من حقيقة النبوة إال االسم ‪ ،‬وكرامات األولياء ‪[ ،‬‬
‫هي ] على التحقيق ‪ ،‬بداايت األنبياء ‪ ،‬وكان ذلك أول حال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬حني أقبل‬
‫إىل جبل (( حراء )) ‪ ،‬حيث كان خيلو فيه بربه ويتعبد ‪ ،‬حىت قالت العرب ‪ (( :‬إن حممداً عشق ربه!))‪.‬‬
‫وهذه حالة ‪ ،‬يتحققها ابلذوق من يسلك سبيلها‪ .‬فمن مل يرزق الذوق ‪ ،‬فيتيقنها ابلتجربة والتسامع ‪ ،‬إن‬
‫أكثر معهم الصحبة ‪ ،‬حىت يفهم ذلك بقرائن األحوال يقيناً‪ .‬ومن جالسهم ‪ ،‬استفاد منهم هذا اإلميان‪ .‬فهم‬
‫القوم ال يشقى جليسهم‪ .‬ومن مل يرزق صحبتهم ‪ ،‬فليعلم إمكان ذلك يقيناً بشواهد الربهان ‪ ،‬على ما ذكرانه‬
‫يف كتاب (( عجائب القلب )) من كتب (( إحياء علوم الدين ))‪.‬‬
‫والتحقيق ابلربهان علم ‪ ،‬ومالبسة عني تلك احلالة ذوق ‪ ،‬والقبول من التسامع والتجربة حبسن الظن إميان‪.‬‬
‫فهذه ثالث درجات ‪:‬‬
‫(( يرفعِّ هللا الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجا ٍ‬
‫ت‬
‫)) (اجملادلة‪:58 :‬‬
‫‪)11‬‬
‫ووراء هؤالء قوم جهال ‪ ،‬هم املنكرون ألصل ذلك ‪ ،‬املتعجبون من هذا الكالم ‪ ،‬يستمعون ويسخرون ‪،‬‬
‫ويقولون ‪ :‬العجب ! أنـهم كيف يهذون ! وفهيم قال هللا تعاىل ‪:‬‬
‫(( ومنـهم من يستمع إليك حتى إذا خرجوا من ِّعندك قالوا للذين أ ُوتوا‬
‫العلم ماذا قال آنفا ً أولئك الذين طبع هللا على قلوبـهم واتبعوا أهواءهم ))‬
‫هم وأعمى أبصارهم ) (حممد ‪)16 :47 :‬‬
‫( فأصم ُ‬
‫ومما ابن يل ابلضرورة من ممارسة طريقتهم ‪ (( ،‬حقيقة النبوة وخاصيتها ))‪ .‬وال بد من التنبيه‪ 103‬على أصلها‬
‫لشدة مسيس احلاجة إليها‪.‬‬
‫‪ 103‬يف ق‪ :‬التنويه‪.‬‬
‫‪- 32 -‬‬
‫واضطرار كاف ِّة الخلق إليها‬
‫حقيقة النُبُوة‪:‬‬
‫ِّ‬
‫اعلم‪ :‬أن جوهر اإلنسان يف أصل الفطرة ‪ ،‬خلق خالياً ساذجاً ال خرب معه من عوامل هللا ( تعاىل )! والعوامل‬
‫كثرية ال حيصيها إال هللا تعاىل كما قال‪:‬‬
‫(( وما يعلم جنود ُ ربك إال هو )) (املدثر ‪)31 :74 :‬‬
‫وإمنا خربه من العوامل بواسطة اإلدراك ‪ ،‬وكل إدراك من اإلدراكات خلق ليطلع اإلنسان به على عامل من‬
‫املوجودات ‪ ،‬ونعين ابلعوامل ‪ ،‬أجناس املوجودات‪.‬‬
‫فأول ما خيلق يف اإلنسان حاسة اللمس ‪ ،‬فيدرك بـها أجناساً من املوجودات‪ :‬كاحلرارة ‪ ،‬والربودة ‪ ،‬والرطوبة‬
‫واليبوسة ‪ ،‬واللني واخلشونة ‪ ،‬وغريها‪ .‬واللمس قاصر عن األلوان واألصوات قطعاً ‪ ،‬بل هي كاملعدوم يف حق‬
‫اللمس‪.‬‬
‫مث ختلق له [ حاسة ] البصر ‪ ،‬فيدرك بـها األلوان واألشكال ‪ ،‬وهو أوسع عوامل احملسوسات‪.‬‬
‫مث ينفخ فيه السمع ‪ ،‬فيسمع األصوات والنغمات‪.‬‬
‫مث خيلق له الذوق‪ .‬وكذلك إىل أن جياوز عامل احملسوسات ‪ ،‬فيخلق فيه التمييز ‪ ،‬وهو قريب من سبع سنني ‪،‬‬
‫وهو طور آخر من أطوار وجوده ‪ :‬فيدرك فيه أموراً زائدة على ( عامل ) احملسوسات ‪ ،‬ال يوجد منها شيء يف‬
‫عامل احلس‪.‬‬
‫مث يرتقى إىل طور آخر ‪ ،‬فيخلق له العقل ‪ ،‬فيدرك الواجبات والائزات واملستحيالت ‪ ،‬وأموراً ال توجد يف‬
‫األطوار اليت قبله‪.‬‬
‫ووراء العقل طور آخر تنفتح فيه عني أخرى يبصر بـها الغيب وما سيكون يف املستقبل ‪ ،‬وأموراً أخر ‪ ،‬العقل‬
‫معزول عنها كعزل قوة التمييز عن إدراك املعقوالت وكعزل قوة احلس عن مدركات التمييز‪ .‬وكما أن املميز لو‬
‫عرضت عليه مدركات العقل ألابها واستبعدها ‪ ،‬فكذلك بعض العقالء أبوا مدركات النبوة واستبعدوها ‪،‬‬
‫وذلك عني الهل ‪ :‬إذ ال مستند هلم إال أنه طور مل يبلغه ومل يوجد يف حقه ‪ ،‬فيظن أنه غري موجود يف نفسه‪.‬‬
‫يقر بـها‪ .‬وقد‬
‫واألكمه ‪ ،‬لو مل يعلم ابلتواتر والتسامع األلوان واألشكال وحكي له ذلك ابتداءً ‪ ،‬مل يفهمها ومل ّ‬
‫قرب هللا تعاىل على خلقه أبن أعطاهم منوذجاً‪ 104‬من خاصية النبوة ‪ ،‬وهو النوم ‪ :‬إذ النائم يدرك ما سيكون‬
‫من الغيب ‪ ،‬إما صرحياً وإما يف كسوة مثال يكشف عنـه التعبري‪ .‬وهذا لو مل جيربه اإلنسان من نفسه ‪ -‬وقيل‬
‫‪ 104‬يف ش ‪ :‬أمنوذجاً‪.‬‬
‫‪- 33 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬حقيقة النبوة‬
‫له‪ (( :‬إن من الناس من يسقط مغشياً عليه كامليت ‪ ،‬ويزول ( عنه ) إحساسه ومسعه وبصره فيدرك الغيب‪.‬‬
‫)) – ألنكره ‪ ،‬وأقام الربهان على استحالته ‪ ،‬وقال‪ (( :‬القوى احلساسة أسباب اإلدراك ‪ ،‬فمن ال يدرك‬
‫األشياء مع وجودها وحضورها ‪ ،‬فبأن ال يدرك مع ركودها أوىل وأحق‪ )) .‬وهذا نوع قياس يكذبه الوجود‬
‫واملشاهدة‪ .‬فكما أن العقل طور من أطوار اآلدمي ‪ ،‬حيصل فيه عني يبصر بـها أنواعاً من املعقوالت ‪،‬‬
‫واحلواس معزولة عنها ‪ ،‬فالنبوة أيضاً عبارة عن طور حيصل فيه عني هلا نور يظهر يف نورها الغيب ‪ ،‬وأمور ال‬
‫يدركها العقل‪.‬‬
‫والشك يف النبوة ‪ ،‬إما أن يقع‪ :‬يف إمكأنـها ‪ ،‬أو يف وجودها ووقوعها ‪ ،‬أو يف حصوهلا لشخص معني‪.‬‬
‫ودليل إمكأنـها وجودها‪ .‬ودليل وجودها وجود معارف يف العامل ال يتصور أن تنال ابلعقل ‪ ،‬كعلم الطب‬
‫والنجوم ؛ فإن من حبث عنها علم ابلضرورة أهنا ال تدرك إال إبهلام إهلي وتوفيق من جهة هللا ( تعاىل ) ‪ ،‬وال‬
‫سبيل إليها ابلتجربة‪ .‬فمن األحكام النجومية ما ال يقع إال يف كل ألف سنة مرة ‪ ،‬فكيف ينال ذلك ابلتجربة‬
‫؟ وكذلك خواص األدوية‪ .‬فتبني بـهذا الربهان أن يف اإلمكان وجود طريق إلدراك هذه األمور اليت ال يدركها‬
‫العقل ‪ -‬وهو املراد ابلنبوة ‪ -‬ال أن النبوة عبارة عنها فقط ‪ ،‬بل إدراك هذا النس اخلارج عن مدركات العقل‬
‫إحدى خواص النبوة ‪ ،‬وهلا خواص كثرية سواها‪ .‬وما ذكران ‪ ،‬فقطرة من حبرها ؛ إمنا ذكرانها ألن معك‬
‫أمنوذجاً منها ‪ ،‬وهو مدركاتك يف النوم ؛ ومعك علوم من جنسها يف الطب والنجوم ‪ ،‬وهي معجزات األنبياء‬
‫( عليهم الصالة والسالم ) ‪ ،‬وال سبيل إليها للعقالء ببضاعة العقل أصالً‪.‬‬
‫وأما ما عدا هذا من خواص النبوة ‪ ،‬فإمنا يدرك ابلذوق ‪ ،‬من سلوك طريق التصوف ؛ ألن هذا إمنا فهمته‬
‫أبمنوذج رزقته وهو النوم ‪ ،‬ولواله ملا صدقت به‪ .‬فإن كان للنيب خاصة ليس لك منها أمنوذج ‪ ،‬وال تفهمها‬
‫أصالً ‪ ،‬فكيف تصدق بـها ؟ وإمنا التصديق بعد الفهم‪ :‬وذلك األمنوذج حيصل يف أوائل طريق التصوف‬
‫فيحصل به نوع من الذوق ابلقدر احلاصل ونوع من التصديق مبا مل حيصل ابلقياس ( إليه )‪ .‬فهذه اخلاصية‬
‫الواحدة تكفيك لإلميان أبصل النبوة‪.‬‬
‫فإن وقع لك الشك يف شخص معني ‪ ،‬أنه نيب أم ال ‪ ،‬فال حيصل اليقني إال مبعرفة أحواله ‪ ،‬إما ابملشاهدة ‪،‬‬
‫أو ابلتواتر والتسامع ؛ فإنك إذا عرفت الطب والفقه ‪ ،‬ميكنك أن تعرف الفقهاء واألطباء مبشاهدة أحواهلم ‪،‬‬
‫ومساع أقواهلم ‪ ،‬وإن مل تشاهدهم ؛ وال تعجز أيضاً عن معرفة كون الشافعي ( رمحه هللا ) فقيهاً ‪ ،‬وكون‬
‫جالينوس طبيباً ‪ ،‬معرفة ابحلقيقة ال ابلتقليد عن الغري ‪ [ ،‬بل ] أبن تتعلم شيئاً من الفقه والطب وتطالع‬
‫كتبهما وتصانيفهما ‪ ،‬فيحصل لك علم ضروري حباهلما‪ .‬فكذلك إذا فهمت معىن النبوة فأكثرت النظر يف‬
‫القرآن واألخبار ‪ ،‬حيصل لك العلم الضروري بكونه صلى هللا عليه وسلم على أعلى درجات النبوة ‪ ،‬وأعضد‬
‫ذلك بتجربة ما قاله يف العبادات وأتثريها يف تصفية القلوب ‪ ،‬وكيف صدق صلى هللا عليه وسلم يف قوله‪:‬‬
‫‪- 34 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬حقيقة النبوة‬
‫(( من عمل بما علم ورثهُ هللا علم ما لم يعلم ))‬
‫وكيف صدق يف قوله‪:‬‬
‫‪105‬‬
‫(( من أعان ظالما ً سلطهُ هللا علي ِّه ))‬
‫‪106‬‬
‫وكيف صدق يف قوله‪:‬‬
‫(( من اصبح و ُه ُمو ُمهُ ه ٌّم واحدٌ كفاه هللا ( تعالى ) ُه ُموم الدنيا واآلخر ِّة ))‪.107‬‬
‫فإذا جربت ذلك يف ألف وألفني وآالف ‪ ،‬حصل لك علم ضروري ال تتمارى فيه‪.‬‬
‫فمن هذا الطريق اطلب اليقني ابلنبوة ‪ ،‬ال من قلب العصا ثعباانً ‪ ،‬وشق القمر ‪ ،‬فإن ذلك إذا نظرت إليه‬
‫وحده ‪ ،‬ومل تنضم إليه القرائن الكثرية اخلارجة عن احلصر ‪ ،‬ورمبا ظننت أنه سحر وختييل ‪ ،‬وأنه من هللا تعاىل‬
‫إضالل فأنه‬
‫ضل من يشا ُء ويهدي من يشا ُء )) (فاطر‪.)8:‬‬
‫(( يُ ِّ‬
‫وترد عليك أسئلة املعجزات ‪ ،‬فإذا كان مستند إميانك إىل كالم منظوم يف وجه داللة املعجزة ‪ ،‬فينجزم إميانك‬
‫بكالم مرتب يف وجه اإلشكال والشبهة عليها ‪ ،‬فليكن مثل هذه اخلوارق إحدى الدالئل والقرائن يف مجلة‬
‫نظرك ‪ ،‬حىت حيصل لك علم ضروري ال ميكنك ذكر مستنده على التعيني كالذي خيربه مجاعة خبرب متواتر ال‬
‫ميكنه أن يذكر أن اليقني مستفاد من قول واحد معني ‪ ،‬بل من حيث ال يدري ‪ ،‬وال خيرج عن مجلة ذلك‬
‫وال بتعيني اآلحاد‪ .‬فهذا هو اإلميان القوي العلمي‪.‬‬
‫وأما الذوق فهو كاملشاهدة واألخذ ابليد ‪ ،‬وال يوجد إال يف طريق الصوفية‪.‬‬
‫فهذا القدر من حقيقة النبوة ‪ ،‬كاف يف الغرض الذي أقصده اآلن ‪ ،‬وسأذكر وجه احلاجة إليه‪.‬‬
‫‪ 105‬غري موجود يف كتب احلديث املشهورة‪.‬‬
‫‪ 106‬رواه أبن عساكر عن أبن مسعود وهو حديث ضعيف‪.‬‬
‫‪ 107‬رواه أبن ماجة عن أبن مسعود واسناده ضعيف ‪ ،‬فيه نـهشل بن سعيد‪ .‬قيل فيه أنه يروى املناكري ‪ ،‬وقيل بل املوضوعات‪.‬‬
‫‪- 35 -‬‬
‫اض عنـه‬
‫سبب نشر ال ِّعلم بعد اإلعر ِّ‬
‫مث إين ‪ ،‬ملا واظبت على العزلة واخللوة قريباً من عشر سنني ‪ ،‬ابن يل يف أثناء ذلك على الضرورة من أسباب‬
‫ال أحصيها ‪ ،‬مرة ابلذوق ‪ ،‬ومرة ابلعلم الربهاين ‪ ،‬ومرة ابلقبول اإلمياين ‪ :‬أن اإلنسان خلق من بدن‬
‫وقلب‪ - 108‬وأعين ابلقلب حقيقة روحه اليت هي حمل معرفة هللا ‪ ،‬دون اللحم والدم الذي يشارك فيه امليت‬
‫والبهيمة ‪ ، -‬وأن البدن له صحة بـها سعادته ومرض فيه هالكه ؛ وأن القلب كذلك له صحة وسالمة ‪ ،‬وال‬
‫ينجو (( إال من أتى هللا بقلب سليم )) (الشعراء‪ )89:‬؛ وله مرض فيه هالكه األبدي األخروي ‪ ،‬كما‬
‫مرض ))‪( 109‬البقرة‪ )10:‬وأن الهل ابهلل سم مهلك ؛ وأن معصية هللا ‪،‬‬
‫قال تعاىل ‪ (( :‬في قلوبـهم‬
‫ٌ‬
‫مبتابعة اهلوى ‪ ،‬داؤه املمرض ‪ ،‬وأن معرفة هللا تعاىل ترايقه احمليي ‪ ،‬وطاعته مبخالفة اهلوى ‪ ،‬دواؤه الشايف ؛ وأنه‬
‫ال سبيل إىل معالتة ابزالة مرضه وكسب صحته ‪ ،‬اال أبدوية ؛ كما ال سبيل إىل معالة البدن إال بذلك‪.‬‬
‫وكما أن أدوية البدن تؤثر يف كسب الصحة خباصية فيها ‪ ،‬ال يدركها العقالء ببضاعة العقل ‪ ،‬بل جيب فيها‬
‫تقليد األطباء الذين أخذوها من األنبياء ‪ ،‬الذين اطلعوا خباصية النبوة على خواص األشياء ‪ ،‬فكذلك ابن يل‬
‫‪ ،‬على الضرورة ‪ ،‬أبن أدوية العبادات حبدودها ومقاديرها احملدودة املقدرة من جهة األنبياء ‪ ،‬ال يدرك وجه‬
‫أتثريها ببضاعة عقل العقالء ‪ ،‬بل جيب فيها تقليد األنبياء الذين أدركوا تلك اخلواص بنور النبوة ‪ ،‬ال ببضاعة‬
‫العقل‪ .‬وكما أن األدوية تركب من ( أخالط خمتلفة ) النوع واملقدار وبعضها ضعف البعض يف الوزن واملقدار‬
‫‪ ،‬فال خيلو اختالف مقاديرها عن سر هو من قبيل اخلواص ‪ ،‬فكذلك العبادات اليت هي أدوية داء القلوب ‪،‬‬
‫مركبة من أفعال خمتلفة النوع واملقدار ‪ ،‬حىت أن السجود ضعف الركوع ‪ ،‬وصالة الصبح نصف صالة العصر‬
‫يف املقدار ؛ وال خيلو عن سر من االسرار ‪ ،‬هو من قبيل اخلواص اليت ال يطلع عليها اال بنور النبوة‪ .‬ولقد‬
‫حتامق وجتاهل جداً من أراد أن يستنبط ‪ ،‬بطريق العقل ‪ ،‬هلا حكمة ‪ ،‬أو ظن أنـها ذكرت على االتفاق ‪ ،‬ال‬
‫عن سر إهلي فيها ‪ ،‬يقتضيها بطريق اخلاصية‪ .‬وكما أن يف األدوية أصوالً هي أركأنـها ‪ ،‬وزوائد هي متمماهتا ‪،‬‬
‫لكل واحد منها خصوص أتثري يف أعمال أصوهلا ‪ ،‬كذلك النوافل والسنن متممات لتكميل آاثر أركان‬
‫العبادات‪.‬‬
‫‪ 108‬يف ق‪ :‬أن لإلنسان بدانً وقلباً‪.‬‬
‫‪ 109‬ذكرت يف القرآن عشر مرات بـهذا اللفظ‪.‬‬
‫‪- 36 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫عرفنا ذلك‬
‫وعلى الملة ‪ :‬فاألنبياء عليهم السالم أطباء أمراض القلوب ‪ ،‬وإمنا فائدة العقل وتصرفه أن ّ‬
‫وشهد للنبوة ابلتصديق ولنفسه ابلعجز‪ 110‬عن درك ما يدرك بعني النبوة ‪ ،‬وأخذ أبيدينا وسلمنا ( إليها )‬
‫تسليم العميان إىل القائدين ‪ ،‬وتسليم املرضى املتحريين إىل األطباء املشفقني‪ .‬فإىل ههنا جمرى العقل وخمطاه‬
‫وهو معزول عما بعد ذلك ‪ ،‬إال عن تفهم ما يلقيه الطبيب إليه‪.‬‬
‫فهذه أمور عرفناها ابلضرورة الارية جمرى املشاهدة ‪ ،‬يف مدة اخللوة والعزلة‪.‬‬
‫مث رأينا فتور االعتقادات يف أصل النبوة ‪ ،‬مث يف حقيقة النبوة ‪ ،‬مث يف العمل مبا شرحته النبوة ‪ ،‬وحتققنا شيوع‬
‫ذلك بني اخللق ؛ فنظرت إىل أسباب فتور اخللق ‪ ،‬وضعف إميأنـهم ‪ ،‬فإذا هي أربعة ‪:‬‬
‫‪ - 1‬سبب من اخلائضني يف علم الفلسفة ؛‬
‫‪ - 2‬وسبب من اخلائضني يف طريق التصوف ؛‬
‫‪ - 3‬وسبب من املنتسبني اىل دعوى التعليم ؛‬
‫‪ -4‬وسبب من معاملة املوسومني ابلعلم فيما بني الناس‪.‬‬
‫فإين تتبعت مد ًة آحاد اخللق ‪ ،‬أسأل من أن يقصر منهم يف متابعة الشرع ( واسأله ) عن شبهته وأحبث عن‬
‫عقيدته وسره وقلت له‪ (( :‬ما لك تقصر فيها فإن كنت تؤمن ابآلخرة ولست تستعد هلا وتبيعها ابلدنيا ‪،‬‬
‫فهذه محاقة! فإنك ال تبيع االثنني بواحد ‪ ،‬فكيف تبيع ما ال نـهاية له أبايم معدودة؟ وإن كنت ال تؤمن ‪،‬‬
‫فأنت كافر! فدبر نفسك يف طلب اإلميان ‪ ،‬وانظر ما سبب كفرك اخلفي الذي هو مذهبك ابطناً ‪ ،‬وهو‬
‫سبب جرأتك ظاهراً ‪ ،‬وإن كنت ال تصرح به جتمالً ابإلميان وتشرفاً بذكر الشرع ! ))‪.‬‬
‫فقائل يقول‪ (( :‬إن هذا أمر لو وجبت احملافظة عليه ‪ ،‬لكان العلماء أجدر بذلك ؛ وفالن من املشاهري بني‬
‫الفضالء ال يصلي ‪ ،‬وفالن يشرب اخلمر ‪ ،‬وفالن أيكل أموال األوقاف وأموال اليتامى ‪ ،‬وفالن أيكل إدرار‬
‫السلطان وال حيرتز عن احلرام ‪ ،‬وفالن أيخذ الرشوة على القضاء والشهادة ! وهلم جراً إىل أمثاله‪)) .‬‬
‫وقائل اثن‪ :‬يدعي ( علم ) التصوف ‪ ،‬ويزعم أنه قد بلغ مبلغاً ترقّى عن احلاجة إىل العبادة!‪.‬‬
‫وقائل اثلث‪ :‬يتعلل بشبهة أخرى من شبهات أهل اإلابحة!‬
‫وهؤالء هم الذين ضلوا عن التصوف‪.‬‬
‫‪ 110‬يف ق‪ :‬ابلعمى‪.‬‬
‫‪- 37 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫وقائل رابع لقي أهل التعليم فيقول‪ (( :‬احلق مشكل ‪ ،‬والطريق إليه متعسر‪ ، 111‬واالختالف فيه كثري ‪،‬‬
‫وليس بعض املذاهب أوىل من بعض ‪ ،‬وأدلة العقول متعارضة ‪ ،‬فال ثقة برأي أهل الرأي ‪ ،‬والداعي إىل‬
‫التعليم متحكم ال حجة له ‪ ،‬فكيف أدع اليقني ابلشك ؟ ))‪.‬‬
‫وقائل خامس يقول‪ (( :‬لست أفعل هذا تقليداً ‪ ،‬ولكين قرأت علم الفلسفة وأدركت حقيقة النبوة ‪ ،‬وإن‬
‫حاصلها يرجع إىل احلكمة واملصلحة ‪ ،‬وأن املقصود من تعبداتـها‪ :‬ضبط عوام اخللق وتقييدهم عن التقاتل‬
‫والتنازع واالسرتسال يف الشهوات ‪ ،‬فما أان من العوام الهال حىت أدخل يف حجر التكليف ‪ ،‬وإمنا أان من‬
‫احلكماء أتبع احلكمة وأان بصري بـها ‪ ،‬مستغن فيها عن التقليد ! ))‪.‬‬
‫هذا منتهى إميان من قرأ ( مذهب ) فلسفة اإلهليني منهم ؛ وتعلم ذلك من كتب ابن سينا وأيب نصر‬
‫الفارايب‪ .‬وهؤالء هم املتجملون ابإلسالم‪.‬‬
‫ورمبا ترى الواحد منهم يقرأ القرآن ‪ ،‬وحيضر الماعات والصلوات ‪ ،‬ويعظم الشريعة بلسأنه ‪ ،‬ولكنه مع ذلك‬
‫ال يرتك شرب اخلمر ‪ ،‬وأنواعاً من الفسق والفجور! وإذا قيل له‪(( :‬إن كانت النبوة غري صحيحة ‪ ،‬فلم تصلي‬
‫؟ )) فرمبا يقول‪ (( :‬لرايضة السد ‪ ،‬ولعادة أهل البلد ‪ ،‬وحفظ املال والولد! ))‪ .‬ورمبا قال‪(( :‬الشريعة‬
‫صحيحة ‪ ،‬والنبوة حق! )) فيقال‪ (( :‬فلم تشرب اخلمر؟ )) فيقول‪ (( :‬إمنا نـهي عن اخلمر ألنـها تورث‬
‫العداوة والبغضاء ‪ ،‬وأان حبكميت حمرتز عن ذلك ‪ ،‬وإين أقصد به تشحيذ خاطري‪ )).‬حىت أن ابن سينا ذكر‬
‫يف وصية له كتب فيها‪ :‬أنه عاهد هللا تعاىل على كذا وكذا ‪ ،‬وأن يعظم األوضاع الشرعية ‪ ،‬وال يقصر يف‬
‫العبادات الدينية ‪ ،‬وال يشرب تلهياً بل تداوايً وتشافياً ؛ فكان منتهى حالته يف صفاء اإلميان ‪ ،‬والتزام‬
‫العبادات ‪ ،‬أن استثىن شرب اخلمر لغرض التشايف‪.‬‬
‫فهذا إميان من يدعي اإلميان منهم‪ .‬وقد اخندع بـهم مجاعة ‪ ،‬وزادهم اخنداعاً ضعف اعرتاض املعرتضني عليهم‬
‫‪ ،‬إذ اعرتضوا مبجاهدة علم اهلندسة واملنطق ‪ ،‬وغري ذلك مما هو ضروري هلم ‪ ،‬على ما بينا علته من قبل‪.‬‬
‫فلما رأيت أصناف اخللق قد ضعف إيـمأنـهم إىل هذا احلد بـهذه األسباب ‪ ،‬ورأيت نفسي ملبة بكشف هذه‬
‫الشبهة ‪ ،‬حىت كان إفضاح هؤالء أيسر عندي من شربة ماء ‪ ،‬لكثرة خوضي يف علومهم [ وطرقهم ] ‪ -‬أعين‬
‫[ طرق ] الصوفية والفالسفة والتعليمية واملتومسني من العلماء‪ ، -‬انقدح يف نفسي أن ذلك متعني يف هذا‬
‫الوقت ‪ ،‬حمتوم‪ .‬فماذا تغنيك اخللوة والعزلة ‪ ،‬وقد عم الداء ‪ ،‬ومرض األطباء ‪ ،‬وأشرف اخللق على اهلالك؟ مث‬
‫قلت يف نفسي‪ (( :‬مىت تشتغل أنت بكشف هذه الغمة ومصادمة هذه الظلمة ‪ ،‬والزمان زمان الفرتة ‪،‬‬
‫‪ 111‬يف ق‪ :‬والطريق متعسرة‪.‬‬
‫‪- 38 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫والدور دور الباطل ‪ ،‬ولو اشتغلت بدعوة اخللق ‪ ،‬عن طرقهم إىل احلق ‪ ،‬لعاداك أهل الزمان أبمجعهم ‪ ،‬وأنـى‬
‫تقاومهم فكيف تعايشهم ‪ ،‬وال يتم ذلك إال بزمان مساعد ‪ ،‬وسلطان متدين قاهر؟ ))‬
‫فرتخصت بيين وبني هللا تعاىل ابالستمرار على العزلة تعلالً ابلعجز عن إظهار احلق ابحلجة‪ .‬فقدر هللا تعاىل‬
‫أن حرك داعية سلطان الوقت من نفسه ‪ ،‬ال بتحريك من خارج‪ .‬فأمر أمر إلزام ابلنهوض إىل نيسابور ‪،‬‬
‫لتدارك هذه الفرتة‪ .‬وبلغ اإللزام حداً كان ينتهي ‪ ،‬لو أصررت على اخلالف ‪ ،‬إىل حد الوحشة‪ .‬فخطر يل أن‬
‫سبب الرخصة قد ضعف ‪ ،‬فال ينبغي أن يكون ابعثك على مالزمة العزلة الكسل واالسرتاحة ‪ ،‬وطلب عز‬
‫النفس وصوهنا عن أذى اخللق ‪ ،‬ومل ترخص لنفسك عسر معاانة اخللق ‪ ،‬وهللا سبحأنه وتعاىل يقول‪:‬‬
‫الناس أن يُتركوا أن يقولوا آمنا ً وهم ال يُفتنون‬
‫(( بسم هللا الرحمن الرحيم‪ :‬الم‪ .‬أح ِّسب‬
‫ُ‬
‫ولقد فتنا الذين من قبلهم )) اآلية (العنكبوت‪) 3-1 :‬‬
‫ويقول عز وجل لرسوله وهو أعز خلقه‪:‬‬
‫نصرنا ؛ وال‬
‫(( ولقد ُكذبت ُرس ٌل من قبلك فصبروا على ما ُكذبوا وأُوذوا ‪ ،‬حتى أتاهم‬
‫ُ‬
‫ت هللا ‪ ،‬ولقد جاءك من نبأ المرسلين )) ( األنعام‪) 34:‬‬
‫مبدل لكلما ِّ‬
‫ويقول عز وجل‪ (( :‬بسم هللا الرحمن الرحيم ‪ :‬يس والقرآن الحكيم‪ )) ...‬إلى قوله (( إنما‬
‫ب ))‪ ( .‬يس‪) 11-1:‬‬
‫ُ‬
‫تنذر من اتبع الذكر وخشي الرحمن بالغي ِّ‬
‫فشاورت يف ذلك مجاعة من أرابب القلوب واملشاهدات ‪ ،‬فاتفقوا على اإلشارة برتك العزلة ‪ ،‬واخلروج من‬
‫الزاوية ؛ وانضاف إىل ذلك منامات من الصاحلني كثرية متواترة ‪ ،‬تشهد أبن هذه احلركة مبدأ خري ورشد‬
‫‪112‬‬
‫الظن بسبب هذه الشهادات‬
‫ق ّدرها هللا سبحأنه على رأس هذه املائة ؛ فاستحكم الرجاء ‪ ،‬وغلب حسن ّ‬
‫ويسر هللا تعاىل احلركة إىل نيسابور ‪ ،‬للقيام بـهذا املهم‬
‫وقد وعد هللا سبحأنه إبحياء دينه على رأس كل مائة‪ّ .‬‬
‫يف ذي القعدة ‪ ،‬سن تسع وتسعني وأربع مائة‪ .‬وكان اخلروج من بغداد يف ذي القعدة سنة مثان ومثانني وأربع‬
‫مائة‪ .‬وبلغت مدة العزلة إحدى عشر سنة‪ .‬وهذه حركة ق ّدرها هللا تعاىل ‪ ( ،‬وهي ) من عجائب تقديراته اليت‬
‫مل يكن هلا انقداح يف القلب يف هذه العزلة ‪ ،‬كما مل يكن اخلروج من بغداد ‪ ،‬والنـزوع عن تلك األحوال مما‬
‫خطر إمكأنه أصالً ابلبال ؛ وهللا تعاىل مقلب القلوب واألحوال و (( قلب المؤمن بين إصبعين من‬
‫أصابعِّ الرحمن ))‪ .113‬وأان أعلم أين ‪ ،‬وإن رجعت إىل نشر العلم ‪ ،‬فما رجعت! فإن الرجوع عود إىل ما‬
‫‪ 112‬أبو دواد واحلاكم عن أبو هريرة عن رسول هللا صلى هللا عليه وسلم قال‪ (( :‬إن هللا يبعث هلذه األمة على رأس كل مائة سنة من جيدد هلا‬
‫دينها ))‪.‬‬
‫‪ 113‬مسلم وأمحد عن عبدهللا بن عمرو بن العاص ويوجد يف الرتمذي وأبن ماجه رواايت مشابـهه عن أخرون‪.‬‬
‫‪- 39 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫كان ‪ ،‬وكنت يف ذلك الزمان أنشر العلم الذي به يكتسب الاه ‪ ،‬وأدعو إليه بقويل وعملي ‪ ،‬وكان ذلك‬
‫قصدي ونييت‪ .‬وأما اآلن فأدعو إىل العلم الذي به يرتك الاه ‪ ،‬ويعرف بـه سقوط رتبة الاه‪.‬‬
‫هذا هو اآلن نييت وقصدي وأمنييت ؛ يعلم هللا ذلك مين ؛ وأان أبغي أن أصلح نفسي وغريي ‪ ،‬ولست أدري‬
‫أأصل مرادي أم أخرتم‪ 114‬دون غرضي؟ ولكين اؤمن إميان يقني ومشاهدة أنه ال حول وال قوة إال ابهلل (‬
‫العلي العظيم ) ؛ وأين مل أحترك ‪ ،‬لكنه حركين ؛ وإين مل أعمل ‪ ،‬لكنه استعملين ؛ فأسأله أن يصلحين أوالً ‪،‬‬
‫مث يصلح يب ‪ ،‬ويهديين ‪ ،‬مث يهدي يب ؛ وأن يريين احلق حقاً ‪ ،‬ويرزقين اتباعه ‪ ،‬ويريين الباطل ابطالً ‪ ،‬ويرزقين‬
‫اجتنابه‪.‬‬
‫*‬
‫*‬
‫*‬
‫ونعود اآلن إىل ما ذكرانه من أسباب ضعف اإلميان بذكر طريق إرشادهم وإنقاذهم من مهالكهم‪:‬‬
‫أما الذين ادعوا احلرية مبا مسعوه من أهل التعليم ‪ ،‬فعالجهم ما ذكرانه يف كتاب (( القسطاس املستقيم ))‬
‫وال نطول بذكره ( يف ) هذه الرسالة‪.‬‬
‫وأما ما تومهه أهل اإلابحة ‪ ،‬فقد حصران شبههم يف سبعة أنواع وكشفناها يف كتاب (( كيمياء السعادة ))‪.‬‬
‫وأما من فسد إميأنه بطريق الفلسفة ‪ ،‬حىت أنكر أصل النبوة ‪ ،‬فقد ذكران حقيقة النبوة ووجودها ابلضرورة‬
‫‪ ،‬بدليل وجود ( علم ) خواص األدوية والنجوم وغريمها‪ .‬وإمنا قدمنا هذه املقدمة ألجل ذلك‪ .‬وأنـما أوردان‬
‫الدليل من خواص الطب والنجوم ‪ ،‬ألنه من نفس علمهم‪ .‬وحنن نبني لكل عامل بفن من العلوم ‪ ،‬كالنجوم‬
‫والطب والطبيعة والسحر والطلسمات‪ ، 115‬مثالً من نفس علمه ‪ ،‬برهان النبوة‪.‬‬
‫وأما من أثبت النبوة بلسأنه ‪ ،‬وسوى أوضاع الشرع على احلكمة ‪ ،‬فهو على التحقيق كافر ابلنبوة ‪ ،‬وإمنا‬
‫هو مؤمن حبكم له طالع خمصوص ‪ ،‬يقتضي طالعه أن يكون متبوعاً ؛ وليس هذا من النبوة يف شيء‪ .‬بل‬
‫اإلميان ابلنبوة‪ :‬أن يقر إبثبات طور وراء العقل ‪ ،‬تنفتح فيه عني يدرك بـها مدركات خاصة ‪ ،‬والعقل معزول‬
‫عنها ‪ ،‬كعزل السمع عن إدراك األلوان ‪ ،‬والبصر عن إدراك األصوات ‪ ،‬ومجيع احلواس عن إدراك املعقوالت‪.‬‬
‫جيوز هذا ‪ ،‬فقد أقمنا الربهان على إمكأنه ‪ ،‬بل على وجوده‪ .‬وإن جوز هذا ‪ ،‬فقد أثبت ‪ ،‬أن ههنا‬
‫فإن مل ّ‬
‫أموراً تسمى خواص ‪ ،‬ال يدور تصرف العقل حواليها أصالً ‪ ،‬بل يكاد العقل يكذبـها ويقضي ابستحالتها‪.‬‬
‫‪ 114‬يقال‪ :‬اخرتمة املنية ‪ ،‬أى أخذته‪.‬‬
‫‪ 115‬هذا اللفظ من أصل يوانين وهو من مصطلحات السحر‪ :‬خطوط وأعداد يزعم كاتبها أنه يربط بـها روحانيات الكواكب العلوية ابلطبائع‬
‫السفلية‪ .‬راجع املعجم الوسيط‪.‬‬
‫‪- 40 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫فإن وزن دانق‪ 116‬من األفيون ‪ ،‬سم قاتل ألنه جيمد الدم يف العروق لفرط برودته‪ .‬والذي يدعي علم الطبيعة‬
‫‪ ،‬يزعم أنه ما يربد من املركبات ‪ ،‬إمنا يربد بعنصري املاء والرتاب ؛ فهما العنصران الباردان‪ .‬ومعلوم أن أرطاالً‬
‫من املاء والرتاب ال يبلغ تربيدها يف الباطن إىل هذا احلد‪ .‬فلو أخرب طبيعي بـهذا ومل جيربـه ‪ ،‬لقال‪ (( :‬هذا‬
‫حمال ‪ ،‬والدليل على استحالته أن فيه انرية وهوائية ‪ ،‬واهلوائية والنارية ال تزيدها برودة ؛ فنقدر الكل ماء وتراابً‬
‫حاران فبأن ال يوجب ذلك أوىل‪ )) .‬ويقدر هذا برهاانً!‬
‫‪ ،‬فال يوجب هذا اإلفراط يف التربيد‪ .‬فإن انضم إليه ّ‬
‫وأكثر براهني الفالسفة يف الطبيعيات واإلهليات ‪ ،‬مبين على هذا النس! فأنـهم تصوروا األمور على قدر ما‬
‫وجدوه وعقلوه ‪ ،‬وما مل أيلفوه قدروا استحالته ‪ ،‬ولو مل تكن الرؤاي الصادقة مألوفة ‪ ،‬وادعى مدع ‪ ،‬أنه عند‬
‫ركود احلواس ‪ ،‬يعلم الغيب ‪ ،‬ألنكره املتصفون مبثل هذه العقول‪ .‬ولو قيل لواحد‪ :‬هل جيوز أن يكون يف‬
‫الدنيا شيء ‪ ،‬هو مبقدار حبة ‪ ،‬يوضع يف بلدة فيأكل تلك البلدة جبملتها مث أيكل نفسه فال يبقي [ شيئاً ]‬
‫من البلدة وما فيها ‪ ،‬وال يبقى هو نفسه؟ )) لقال‪ (( :‬هذا حملال وهو من مجلة اخلرافات! )) وهذه حالة‬
‫النار ‪ ،‬ينكرها من مل ير النار إذا مسعها‪ .‬وأكثر [ إنكار ] عجائب اآلخرة هو من هذا القبيل‪ .‬فنقول‬
‫للطبيعي‪ (( :‬قد اضطررت إىل أن تقول ‪ :‬يف األفيون خاصية يف التربيد ‪ ،‬ليست على قياس املعقول ابلطبيعة‪.‬‬
‫فلم ال جيوز أن يكون يف األوضاع الشرعية من اخلواص ‪ ،‬يف مداواة القلوب وتصفيتها ‪ ،‬ما ال يدرك ابحلكمة‬
‫العقلية ‪ ،‬بل ال يبصر ذلك إال بعني النبوة؟ )) بل قد اعرتفوا خبواص هي أعجب من هذا فيما أوردوه يف‬
‫كتبهم ‪ ،‬وهي من اخلواص العجيبة اجملربة يف معالة احلامل اليت عسر عليها الطلق ‪ ،‬بـهذا الشكل‪:‬‬
‫ب‬
‫ط‬
‫د‬
‫‪2‬‬
‫‪9‬‬
‫‪4‬‬
‫ز‬
‫هـ‬
‫ج‬
‫‪7‬‬
‫‪5‬‬
‫‪3‬‬
‫و‬
‫ا‬
‫ح‬
‫‪6‬‬
‫‪1‬‬
‫‪8‬‬
‫يكتب على خرقتني مل يصبهما ماء ‪ ،‬وتنظر إليهما احلامل بعينها ‪ ،‬وتضعهما حتت قدميها ‪ ،‬فيسرع الولد يف‬
‫احلال إىل اخلروج‪ .‬وقد أقروا إبمكان ذلك وأوردوه يف (( عجائب اخلواص )) ؛ وهو شكل فيه تسعة بيوت ‪،‬‬
‫‪ 116‬الدانق (بفتح النون وكسرها)‪ :‬سدس الدرهم‪.‬‬
‫‪- 41 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫يرقم فيها رقوم خمصوصة ‪ ،‬يكون جمموع ما يف جدول واحد مخسة عشر ‪ ،‬قرأته يف طول الشكل أو يف عرضه‬
‫أو على التأريب‪.117‬‬
‫فيا ليت شعري! من يصدق بذلك ‪ ،‬مث ال يتسع عقله للتصديق ‪ ،‬أبن تقدير صالة الصبح بركعتني ‪ ،‬والظهر‬
‫أبربع ‪ ،‬واملغرب بثالث ‪ ،‬هو خلواص غري معلومة بنظر احلكمة؟ وسببها اختالف هذه األوقات‪ .‬وإمنا تدرك‬
‫هذه اخلواص بنور النبوة‪ .‬والعجب أنـا لو غريان العبارة إىل عبارة املنجمني ‪ ،‬لعقلوا اختالف هذه األوقات ‪،‬‬
‫فنقول‪ (( :‬أليس خيتلف احلكم يف الطالع ‪ ،‬أبن تكون الشمس يف وسط السماء ‪ ،‬أو يف الطالع ‪ ،‬أو يف‬
‫الغارب ‪ ،‬حىت يبنوا على هذا يف تسيرياتـهم اختالف العالج ‪ ،‬وتفاوت األعمار واآلجال ‪ ،‬وال فرق بني‬
‫الزوال وبني كون الشمس يف وسط السماء ‪ ،‬وال بني املغرب وبني كون الشمس يف الغارب ‪ ،‬فهل لتصديق‬
‫ذلك سبب؟ )) إال أن ذلك يسمعه بعبارة منجم ‪ ،‬لعله جرب كذبه مائة مرة‪ .‬وال يزال يعاود تصديقه ‪ ،‬حىت‬
‫لو قال املنجم [ له ]‪ (( :‬إذا كانت الشمس يف وسط السماء ‪ ،‬ونظر إليها الكوكب الفالين ‪ ،‬والطالع هو‬
‫الربج الفالين ‪ ،‬فلبست ثوابً جديداً يف ذلك الوقت قتلت يف ذلك الثوب! )) فأنه ال يلبس الثوب يف ذلك‬
‫الوقت ‪ ،‬ورمبا يقاسي فيه الربد الشديد ‪ ،‬ورمبا مسعه من منجم وقد عرف‪ 118‬كذبـه مرات!‪.‬‬
‫فليت شعري! من يتسع عقله لقبول هذه البدائع ويضطر إىل االعرتاف أبنـها خواص ‪-‬معرفتها معجزة لبعض‬
‫األنبياء‪ -‬فيكف ينكر مثل ذلك ‪ ،‬فيما يسمعه من قول نيب صادق مؤيد ابملعجزات ‪ ،‬مل يعرف قط‬
‫ابلكذب! ( ومل ال يتسع إلمكأنه! )‪.‬‬
‫فإن أنكر فلسفي إمكان هذه اخلواص يف أعداد الركعات ‪ ،‬ورمي المار ‪ ،‬وعدد أركان احلج ‪ ،‬وسائر‬
‫تعبدات الشرع ‪ ،‬مل جيد بينها وبني خواص األدوية والنجوم فرقاً أصالً‪ .‬فإن قال‪ (( :‬قد جربت شيئاً من‬
‫النجوم وشيئاً من الطب ‪ ،‬فوجدت بعضه صادقاً ‪ ،‬فانقدح يف نفسي تصديقه وسقط من قليب استبعاده‬
‫ونفرته ؛ وهذا مل أجربه ‪ ،‬فبم أعلم وجوده وحتقيقه؟ )) وإن أقررت إبمكأنه ‪ ،‬فأقول‪ (( :‬إنك ال تقتصر على‬
‫تصديق ما جربته بل مسعت أخبار اجملربني وقلدتـهم ‪ ،‬فامسع أقوال األنبياء فقد جربوا وشاهدوا احلق يف مجيع‬
‫ما ورد بـه الشرع ‪ ،‬واسلك سبيلهم تدرك ابملشاهدة بعض ذلك‪)).‬‬
‫على أين أقول‪ (( :‬وإن مل جتربه ‪ ،‬فيقضي عقلك بوجوب التصديق واإلتباع قطعاً‪ .‬فإان لو فرضنا رجالً بلغ‬
‫وعقل ومل جيرب ( املرض ) ‪ ،‬فمرض ‪ ،‬وله والد مشفق حاذق ابلطب ‪ ،‬يسمع دعواه يف معرفة الطب منذ‬
‫عقل ‪ ،‬فعجن له والده دواء ‪ ،‬فقال‪ (( :‬هذا يصلح ملرضك ويشفيك من سقمك‪ )) .‬فماذا يقتضيه عقله ‪،‬‬
‫‪ 117‬يف ش ‪( :‬أو جوانبه) بدالً من (أو على التأريب)‪.‬‬
‫‪ 118‬يف ق‪ :‬جرب‪.‬‬
‫‪- 42 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫إن كان الدواء مراً كريه املذاق ‪ ،‬أن يتناول؟ أو يكذب ويقول‪ (( :‬أان [ ال ] أعقل مناسبة هذا الدواء‬
‫لتحصيل الشفاء ‪ ،‬ومل أجربه! )) فال شك أنك تستحمقه إن فعل ذلك! وكذلك يستحمقك أهل البصائر‬
‫يف توقفك! فإن قلت‪ (( :‬فبم أعرف شفقة النيب صلى هللا عليه وسلم ومعرفته بـهذا الطب؟ )) فأقول‪ (( :‬ومب‬
‫عرفت [ شفقة أبيك ] وليس ذلك أمراً حمسوساً؟ بل عرفتها بقرائن أحواله وشواهد أعماله يف مصادره‬
‫وموارده علماً ضرورايً ال تتمارى فيه‪)) .‬‬
‫ومن نظر يف أقوال رسول هللا صلى هللا عليه وسلم ‪ ،‬وما ورد من األخبار يف اهتمامه إبرشاد اخللق ‪ ،‬وتلطفه‬
‫جر الناس أبنواع الرفق‪ 119‬واللطف ‪ ،‬إىل حتسني األخالق وإصالح ذات البني ‪ ،‬وابلملة إىل ما يصلح‬
‫يف ّ‬
‫به دينهم ودنياهم ‪ ،‬حصل له علم ضروري ‪ ،‬أبن شفقته صلى هللا عليه وسلم على أمته أعظم من شفقة‬
‫الوالد على ولده‪.‬‬
‫وإذا نظر إىل عجائب ما ظهر عليه من األفعال ‪ ،‬وإىل عجائب الغيب الذي أخرب عنه القرآن على لسأنه‬
‫ويف األخبار ‪ ،‬وإىل ما ذكره يف آخر الزمان ‪ ،‬فظهر ذلك كما ذكره ‪ ،‬علم علماً ضرورايً أنه بلغ الطور الذي‬
‫وراء العقل ‪ ،‬وانفتحت له العني اليت ينكشف منها الغيب الذي ال يدركه إال اخلواص ‪ ،‬واألمور اليت ال‬
‫يدركها العقل‪.‬‬
‫فهذا هو منهاج حتصيل العلم الضروري بتصديق النيب صلى هللا عليه وسلم ‪ .‬فجرب وأتمل القرآن وطالع‬
‫األخبار ‪ ،‬تعرف ذلك ابلعيان‪.‬‬
‫وهذا القدر يكفي يف تنبيه املتفلسفة ‪ ،‬ذكرانه لشدة احلاجة إليه يف هذا الزمان‪.‬‬
‫وأما السبب الرابع ‪ -‬وهو ضعف اإلميان بسبب سرية العلماء‪ -‬فيداوي هذا املرض بثالثة أمور‪:‬‬
‫أحدها‪ :‬أن تقول‪ (( :‬إن العامل الذي تزعم أنه أيكل احلرام ومعرفته بتحرمي ذلك احلرام كمعرفتك بتحرمي اخلمر‬
‫[ وحلم اخلنـزير ] والراب ‪ ،‬بل بتحرمي الغيبة والكذب والنميمة ‪ ،‬وأنت تعرف ذلك وتفعله ‪ ،‬ال لعدم إميانك‬
‫أبنه معصية ‪ ،‬بل لشهوتك الغالبة عليك ؛ فشهوته كشهوتك ‪ ،‬وقد غلبته كما غلبتك ‪ ،‬فعلمه مبسائل وراء‬
‫هذا يتميز به عنك ‪ ،‬ال يناسب زايدة زجر عن هذا احملظور املعني‪.‬‬
‫(( وكم من مؤمن ابلطب ال يصرب عن الفاكهة وعن املاء البارد ‪ ،‬وإن زجره الطبيب عنه! وال يدل ذلك على‬
‫أنه غري ضار ‪ ،‬أو على ان اإلميان ابلطب غري صحيح ‪ ،‬فهذا حممل هفوات العلماء‪)) .‬‬
‫الثاين‪ :‬أن يقال للعامي‪ (( :‬ينبغي أن تعتقد أن العامل اختذ علمه ذخراً لنفسه يف اآلخرة ‪ ،‬ويظن أن علمه‬
‫ينجيه ‪ ،‬ويكون شفيعاً له حىت يتساهل معه يف أعماله ‪ ،‬لفضيلة علمه‪ .‬وإن جاز أن يكون زايدة حجة عليه‬
‫‪ 119‬يف ق زاد ‪ :‬واللني‪.‬‬
‫‪- 43 -‬‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫‪ ،‬فهو جيوز أن يكون زايدة درجة له ‪ ،‬وهو ممكن‪ .‬فهو ‪ ،‬وإن ترك العمل ‪ ،‬يديل ابلعلم‪ .‬وأما أنت أيها‬
‫العامي! إذا نظرت إليه وتركت العمل وأنت عن العلم عاطل ‪ ،‬فتهلك بسوء عملك وال شفيع لك! ))‬
‫الثالث‪ :‬وهو احلقيقة ‪ ،‬أن العامل احلقيقي ‪ ،‬ال يقارف معصية إال على سبيل اهلفوة ‪ ،‬وال يكون مصراً على‬
‫يعرف أن املعصية سم مهلك ‪ ،‬وأن اآلخرة خري من الدنيا‪ .‬ومن عرف‬
‫املعاصي أصالً‪ .‬إذ العلم احلقيقي ما ّ‬
‫ذلك ‪ ،‬ال يبيع اخلري مبا هو أدىن [ منه ]‪.‬‬
‫وهذا العلم ال حيصل أبنواع العلوم اليت يشتغل بـها أكثر الناس‪ .‬فلذلك ال يزيدهم ذلك العلم إال جرأة على‬
‫معصية هللا تعاىل‪ .‬وأما العلم احلقيقي ‪ ،‬فيزيد صاحبه خشية وخوفاً [ ورجاءً ] ‪ ،‬وذلك حيول بينه وبني‬
‫املعاصي إال اهلفوات اليت ال ينفك عنها البشر يف الفرتات ‪ ،‬وذلك ال يدل على ضعف اإلميان‪ .‬فاملؤمن مفت‬
‫ّتواب ‪ ،‬وهو بعيد عن اإلصرار واإلكباب‪.‬‬
‫*‬
‫*‬
‫‪- 44 -‬‬
‫*‬
‫الغزايل‬
‫املنقذ من الضالل ‪ :‬سبب نشر العلم‬
‫هذا ما أردت أن أذكره يف ذم الفلسفة والتعليم وآفاتـهما وآفات من أنكر عليهما ‪ ،‬ال بطريقه‪.‬‬
‫نسأل هللا العظيم أن جيعلنا ممن آثره واجتباه ‪ ،‬وأرشده إىل احلق وهداه ‪ ،‬وأهلمه ذكره حىت ال ينساه ‪ ،‬وعصمه‬
‫عن شر نفسه حىت مل يؤثر عليه سواه ‪ ،‬واستخلصه لنفسه حىت ال يعبد إال إايه‪.‬‬
‫وصلى هللا على سيدنا محمد وعلى آله وصحبـه وسلم‪.‬‬
‫*‬
‫*‬
‫*‬
‫ص ُل اِّلى ذِّي ال ِّعزةِّ والجالل لألمام الغزالي‬
‫المو ِّ‬
‫وبـهذا تم كتاب ال ُمن ِّقذ ُ ِّمن الضالل و ُ‬
‫رحمه هللا تعالى واسكنـه فسيح جناته‬
‫*‬
‫*‬
‫‪- 45 -‬‬
‫*‬
‫مالحظه عن النص والتحقيق‪:‬‬
‫بسم هللا الرحمن الرحيم ‪ ،‬وبـه نستعين ‪ ،‬والصالة والسالم على رسول هللا ؛ الحمد هلل‬
‫التي تمم بـه الصالحات وبفضله تنـزل البركات‪ .‬نص هذا الكتاب نقل من موقع الوراق‬
‫االمارتي ‪ -‬ولهم منا جزيل الشكر‪ -‬وقد أُدخل عليه تعديالت و اكمال بعض النقص الذي‬
‫كان في النص و تصحيحات هامة مع مقارنة النص بطبعة دار الكتب العلمية لعام‬
‫‪ 1988‬م بتحقيق أحمد شمس الدين ؛ والطبعة الخامسة التي حققها كل من األستاذ كامل‬
‫عياد و األستاذ جميل صليبا كما وردت في سلسة الروائع االنسانية مع الترجمة الفرنسية‬
‫لفريد جبر‪.‬و قد ذكرنا االختالف بين النسختين في الهامش و حاولنا على قدر المستطاع‬
‫اثبات ما هو صحيح في صدر الكتاب‪ .‬ثم إن تحقيق األحاديث النبوية الشريفة وشرح‬
‫بعض الكلمات مأخوذ عن أحمد شمس الدين بتصرف واختصار‪ .‬وهللا من وراء القصد‪.‬‬
‫والرموز التي اتخذت في الهواش كالتالي‪:‬‬
‫ق ‪ - :‬يعني الوراق وهي اصل النص‪.‬‬
‫ش‪ - :‬نسخة أحمد شمس الدين‪.‬‬
‫د‪ - :‬نسخة األستاذين كامل عياد وجميل صليبا‪.‬‬
‫تصحيح وتحقيق واختيار محمد اسماعيل حزين و شذا رائق عبدهللا لموقع الغزالي في‬
‫منتصف عام ‪2002‬م‪.‬‬
‫*‬
‫*‬
‫‪- 46 -‬‬
‫*‬